لما حكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون :﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً﴾ [الأنفال : ٣٢] الآية.
وأجاب بأن ذكر أنَّه : لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بيَّن أنَّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب ؛ لأنَّه لو نزلت بهم آفةٌ، تضرَّعُوا إلى الله تعالى في إزالتها، بيَّن ههنا ما يجري مجرى التهديد : وهو أنَّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم ؛ ليكون ذلك رَادعاً لهم عن قولهم :﴿إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال : ٣٢] ؛ لأنَّهم متى سمعُوا أنَّ الله قد يجيبُ دعاءهم، وينزل بهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهُود والنَّصارى، أنَّ ذلك قد وقع مراراً كثيرة، صار ذلك رَادِعاً عن ذكر هذا الكلام.
قوله :" مِن قَبْلِكُمْ " متعلقٌ بـ " أهْلَكْنَا "، ولا يجوز أن يكون حالاً من " القُرُون " ؛ لأنَّه ظرف زمانٍ، فلا يقعُ حالاً عن الجثَّة، كما لا يقع خبراً عنها، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا أوَّل البقرة [البقرة : ٢١]، وتقدم الكلامُ على " لمَّا " [البقرة : ١٧]، قال الزمخشري :" لما " ظرف لـ " أهْلَكْنَا "، و " وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم " يجوز أن يكون معطوفاً على " ظَلَمُوا "، فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحلُّه الجر عند غيره ؛ لأنَّه عطف على ما هو في محلِّ جرِّ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكون في محلِّ نصب على الحال، أي : ظلمُوا بالتَّكذيب، وقد جاءتهُم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَّوَاهدِ على صدقهم.
و " بالبَيِّنَاتِ " يجوز أن يتعلَّق بـ " جَاءتْهُم "، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ من " رُسلهُمْ "، أي : جاءُوا مُلتبسِين بالبيِّناتِ، مُصاحبين لها.
قوله :" وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ " يجوز عطفه على " ظَلَمُوا "، وهو الظَّاهرُ، وجوَّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً قال : واللامُ لتأكيد نفي إيمانهم، ويعني بالاعتراض : كونه وقع بين الفعل، ومصدره التشبيهي في قوله :" كذلِكَ نَجْزِي " والضميرُ في " كانُوا " عائد على " القُرُون "، وجوَّز مقاتلٌ : أن يكون ضمير أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً، إذ فيه خُرُوجٌ من ضمير الخطابِ في قوله :" قَبْلِكُمْ "، إلى الغيبة، والمعنى : وما كنتم لتُؤمِنُوا.
و " كذلِكَ " نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي : مثل ذلك الجزاء نجزي.
وقرىء " يَجْزِي " بياء الغيبة ؛ وهو التفاتٌ من التكلُّم في قوله :" أهْلَكْنَا "، إلى الغيبةِ.
قوله :" ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ " أي : خلفاء " فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم " أي : من بعد القرون التي أهلكناهم، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :" لِنَنظُرَ " متعلق بالجعل، وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة، وتشديد الظَّاء، وقال يحيى :" هكذا رأيتُه في مصحف عثمان "، يعني : أنَّه رآها بنُون واحدة، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة ؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ
٢٨٠
الثانية في الظَّاء، وهو رَدِيءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال هنا : إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة، فظنَّه السَّامع إدغاماً، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ، ولا مُخَفَّفها.
قال أبو حيان :" ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ " وفيه نظرٌ ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه ؟ وقوله :" كَيْفَ " منصوبٌ بـ " تَعْملُون " على المصدر، أي : أيَّ عملٍ تعملُون، وهي معلِّقة للنَّظر.
فإن قيل : كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟ فالجواب : أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر، وعيان العاين.
فإن قيل : قوله :" لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم.
فالجواب : أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ؛ ليُجازيهُم بجنسه، كقوله :﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود : ٧]، قال - عليه الصلاة والسلام - :" إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون "، قال الزجاج :" موضع " كيف " نصب بقوله :" تَعْمَلُون " ؛ لأنَّها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ".
قوله تعالى :﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ الآية.
روي عن ابن عبَّاس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عليه الصلاة والسلام - وبالقرآن : الوليدُ بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ، كما قال :﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر : ٩٥].
٢٨١