بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال : صلوات الله وسلامه عليه - :" أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة "، وروي :" ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا : البَغْي، وعقُوقُ الوالدين " وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - :" لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي ".
وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه : البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى - :﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾، ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام : ١٢٣]، ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفتح : ١٠].
قوله :﴿مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قرأ حفص :" مَتَاعَ " بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو :" مَقْدمَ الحجَّاج "، اي : زمن متاع الحياة.
والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي : مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال : الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو " عليكم "، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر ؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته.
والثالث : نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي : يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا.
الرابع : أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي : يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر ؛ لما تقدَّم.
الخامس : أن ينتصب على المفعول من أجله، أي : لأجل متاع، والعامل فيه : إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في " عَلَيْكُم "، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله : نفس البغي، لا على جعل " عَلَى أنْفُسِكُم " خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ ؛ لطول الكلام، والتقدير : إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة " مَتَاعُ " بالرفع - وفيه أوجه : أظهرها : أنَّه خبرُ " بَغْيُكُمْ "، و " عَلَى أنفُسِكُمْ " : متعلقٌ بالبغي.
ويجُوزُ أن يكون " عليكم " خبراً، و " مَتَاعُ " خبراً ثانياً.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي : هو متاع كقوله :﴿لَمْ يَلْبَثُوا ااْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ﴾ [الأحقاف : ٣٥].
أي : هذا بلاغٌ.
٢٩٧
وقرأ ابن أبي إسحاق، " مَتَاعاً الحياةَ " بنصب " مَتَاعاً " و " الحَيَاة "، فـ " مَتَاعاً " : على ما تقدَّم، وأمَّا " الحَيَاة " : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون " مَتَاعاً " مصدراً مؤكداً ؛ لأنّض المؤكِّد لا يعمل.
ويجُوزُ أن تنتصب " الحَيَاة " على البدل من " مَتَاعاً " لأنها مشتملةٌ عليه، وقرىء أيضاً :" مَتاعِ الحياة "، بجرِّ " متاع "، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره : على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي : إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم ؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك ؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أجله، وحذفُ حرف الجرِّ، وإبقاءُ عمله قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه.
وقال أبُو البقاء :" ويجوزُ أن يكون المصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي : مُتَمتِّعات "، يعني : أنَّهُ يجعلُ المصدر نعتاً لـ " أنْفُسِكُم "، من غير حذف مضافٍ، بل على المبالغة، أو على جعل المصدر بمعنى : اسم الفاعل، ثم قال :" ويضعُف أن يكون بدلاً إذا أمكن أن يجعل صفة ".
قال شهابُ الدِّين :" وإذا جعل بدلاً على ضعفه، فمنْ أيِّ قبيل البدلِ يجعل ؟ والظاهر : أنَّه من بدلِ الاشتمال، ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ حينئذٍ، أي : متاع الحياة الدُّنيا لها ".
ثم قال :" ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ " أي : ما وعدنا من المُجازاة على أعمالكم ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والإنبَاءُ : الإخبار، وهو هُنَا وعيدٌ بالعذابِ، كقول الرَّجُل لغيره : سأخْبِرُكَ بما فعلتَ.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٩٠
قوله - تعالى - ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الآية.
لمَّا قال - تعالى - :﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس : ٢٣] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال :﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهذه الجملةُ سيقتْ ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر.
قال الزمخشري :" هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا،
٢٩٨


الصفحة التالية
Icon