المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً.
دلَّت هذه الآيةُ : على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً ؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً.
فإن قيل : فقول أهل السُّنَّة : أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر.
٣٢٨
فالجواب من وجوه : الأول : مذهب الشافعي : أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى - ؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة.
الثاني : أنَّ الغرضَ من قوله : إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث : الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٢٣
قوله - تعالى - :﴿وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآية.
لمَّا تقدَّم قول القوم :﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ [يونس : ٢٠]، وذكروا ذلك ؛ لاعتقادهم ؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه ؛ افتعالاً، واختلافاً، وذكر - تعالى - هنا : أنَّ إتيان محمَّد - عليه الصلاة والسلام - بهذا القرآن، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى -، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال، والافتراء، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام، بقوله :﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس : ٣٨].
قوله :" أن يُفْتَرَى " : فيه وجهان : أحدهما : أنَّه خبرُ " كان "، تقديره : وما كان هذا القرآن افتراء، أي : ذا افتراء، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً، أو يكون بمعنى : مُفْتَرى.
والثاني : زعم بعضهم : أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ، والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليفترى، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود، ظهرت " أنْ "، وزعم : أنَّ اللاَّم، و " أنْ " يتعاقبان، فتحذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا
٣٢٩
القول، يكون خبر " كان " محذُوفاً، و " أنْ " وما في حيِّزها، متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [البقرة١٤٣]، و " مِن دُون اللهِ " متعلِّق بـ " يُفْتَرَى " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن.
قوله :﴿وَلَـاكِن تَصْدِيقَ﴾ : عطف على خبر " كانَ " ووقعت " لكن " هنا أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين : وهُما التكذيبُ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق.
وقرأ الجمهور :" تَصْدِيقَ " و " تَفْصِيلَ " بالنصب، وفيه أوجهٌ :.
أحدها : العطفُ على خبر " كَانَ " كما تقدَّم، ومثله :﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب : ٤٠].
والثاني : أنَّه خبر " كَانَط مضمرةٌ، تقديره : ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائيُّ، والفرَّاء، وابن سعدان، والزجاج، وهذا كالذي قبله في المعنى.
والثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر، أي : وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتَّصديق.
والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً، والتقدير : ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب.
وقرأ عيسى بن عمر " تَصْدِيقُ " بالرفع، وكذلك التي في يوسف، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ، أي : ولكن هو تصديقُ ؛ ومثله قول الشاعر :[الوافر] ٢٩٠٣ - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ
ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٢٩
برفع " مِدْرَةُ "، على تقدير : أنَا مِدْرَهُ.
وقال مكي :" ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء -.
الرَّفعُ على تقدير : ولكن هو تصديقُ "، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ، وقد ورد في قراءات السَّبعة : التَّخفيفُ، والتَّشديدُ في " لكن "، نحو :﴿وَلَـاكِنَّ الشَّيْاطِينَ﴾ [البقرة : ١٠٢]، ﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال : ١٧].
قوله :" لاَ رَيْبَ فِيهِ " : فيه أوجه : أحدها : أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه ؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى : وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب.
والثاني : أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب.
٣٣٠