حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري :" فإن قلت : ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى - :﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ ؟ قلت : معناه : كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل "، ثمَّ قال أيضاً :" ويجُوزُ أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي : عاقبته حتى يتبيَّن لهم : أكذبٌ هو، أم صدقٌ ".
انتهى.
وفي وضعه " لَمْ " موضع " لمَّا " نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة بـ " لم "، وجملة إتيانِ التأويل بـ " لمَّا " ؛ لأنَّ " لَمْ " للنَّفْي " المطلق على الصَّحيح، و " لمَّا " لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى : أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار.
فصل قيل المعنى : بل كذَّبُوا بالقرآن ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي : عاقبةُ ما وعد الله في القرآن ؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد : أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل : كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا : ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي : بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً : تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية ؛ كما قال - تعالى - :﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ﴾ [يوسف : ١١١]، وأيضاً فهي دلالة على العجز ؛ لكون النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص :﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء : ١٩٢ - ١٩٤]، وقيل : إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن ؛ فأجاب - تعالى - بقوله :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران : ٧]، وقيل : إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا : لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فأجاب - تعالى - :﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان : ٣٢]، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل : إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم : إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله :﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء : ٧]، وبالجملة : فشبهات الكفارة كثيرة ؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن.
قوله :" كذلِكَ " : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي : مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي : قبل النظر، والتدبُّر.
٣٣٥