اللاًَّم للجنس، فكأنه قال : أهُو الحق لا الباطلُ، أو : أو الذي سمَّيتُمُوه الحق " والضمير، أعني :" هو " عائدٌ إمَّا على العذاب، أو على الشَّرع، أو على القرآن، أو على الوعيد، أو على أمر السَّاعة.
قوله :" إي وربِّي " " إي " حرف جوابٍ بمعنى " نعم " ولكنَّها تختصُّ بالقسم، أي : لا تُستعمل إلاَّ في القسم بخلافِ " نعم ".
قال الزمخشري :" وإي : بمعنى نعم في القسم خاصةً ؛ كما كان " هَلْ " بمعنى " قَدْ " في الاستفهام خاصَّة، وسمِعْتُهُم يقولون في التَّصديق " إيْوَ " فيَصِلُونَه بواو القسم، ولا ينْطِقُون به وحده ".
قال أبو حيَّان :" لا حُجَّة فيما سمعه لعدمِ الحُجَّة في كلام من سمعهُ ؛ لفسادِ كلامه وكلام من قبله بأزمانٍ كثيرة ".
وقال ابن عطيَّة :" هي لفظةٌ تتقدَّم القسم بمعنى : نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ، تقول : إي وربِّي وإي رَبِّي ".
قوله :﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ يجوزُ أن تكون الحجازيَّة وأن تكون التميميَّة ؛ لخفاء النَّصْبِ، أو الرفع في الخبر.
وهذا عند غير الفارسي، وأتباعه، أعني : جواز زيادة الباء في خبر التميمية، وهذه الجملة تحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون معطوفة على جواب القسم ؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين ؛ إحداهما : مثبتةٌ مؤكَّدةٌ بـ " إنَّ واللاَّم، والأخرى : منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباءِ.
والثاني : أنَّها مستأنفةٌ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التَّعجيز، و " مُعْجَِز " من أعجز، فهو متعدِّ لواحدٍ، كقوله - تعالى - :﴿وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً﴾ [الجن : ١٢] فالمعفول هنا محذوفٌ، أي : بمعجزين الله، وقال الزجاج :" أي : أنتم ممَّن يُعْجِزُ من يُعذِّبُكم "، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم ؛ لأنَّه قد كثر فيه حذفُ المفعول، حتَّى قالت العرب :" أعْجَزَ فلانٌ " إذا ذهب في الأرض فلمْ يُقدر عليه، قال بعض المُفَسِّرين : المعنى : ما أنتم بمُعْجزين، أي : بفَائتينَ من العذاب ؛ لأنَّ من عجز عن شيءٍ، فقد فاتهُ.
قوله - تعالى - :﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ﴾ الآية.
أي : أشركت ما في الأرض، ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر ؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ [مريم : ٩٥] وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء ؛ لقوله - تعالى - :﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة :
٣٥٣
٤٨] وقوله :" ظَلَمَتْ " في محل جرِّ صفةٍ لـ " نَفْسٍ " أي : لكلِّ نفس ظالمة، و " ما فِي الأرض " اسمُ " أنَّ " و " لكلِّ " هو الخبر.
قوله :﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ :" افتدى " يجوز أن يكون متعدياً، وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً لـ " فَدَى " كان قاصراً، تقول : فَدَيتُهُ فافْتَدَى، ويكُون بمعنى : فَدَى " فيتعدَّى لواحدٍ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين : فإن جعلناه مُتعدِّياً، فمفعوله محذوفٌ تقديره : لافتدت به نفسها، وهو في المجاز، كقوله :﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل : ١١١].
قوله :" وَأَسَرُّواْ " قيل :" أسرَّ " من الأضداد، يستعمل بمعنى : أظهر ؛ كقول الفرزدق :[الطويل] ٢٩٠٥ - وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ
أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٥١
وقول الآخر :[الوافر] ٢٩٠٦ - فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى
بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي
ويستعمل بمعنى :" أخْفَى " وهو المشهورُ في اللُّغةِ، كقوله - تعالى - :﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة : ٧٧].
وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع، وقيل : بمعنى : المستقبل ؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي، وقد أبعد بعضهم، فقال :﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ﴾ أي : بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم، أي : تكاسيرُ جباههم.
قوله :" لَمَّا رَأَوُاْ " يجوزُ أن تكون حرفاً، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً، ويجوز أن تكون بمعنى :" حين " والنَّاصبُ لها :" أسَرُّوا ".
فصل إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ : الأول : أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد، صارُوا مبهُوتين، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة، كمن يذهبُ به ليُصلب، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة.
الثاني : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم، وأتباعهم، حياء منهم، وخوفاً من توبيخهم.
فإن قيل : إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير، فكيف أقدمُوا عليه ؟.
فالجواب : أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق، فإذا احترقوا، تركوا هذا الإخفاء
٣٥٤