الثاني : أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب : فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب : بذلك فليَفْرَحُوا.
الثالث : قال أبو البقاء : الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره : فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا ؛ كقولهم : زيداً فاضربه، أي : تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على " فَلْيَفْرَحُوا " بياء الغيبة.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو جراء، وابن هرمز، وابن سيرين : بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله ﷺ، قال الزمخشري :" وهو الأصلُ والقياسُ ".
قال أبو حيَّان :" إنَّها لغةٌ قليلة ".
يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ " افعل "، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ :" فَافْرَحُوا " وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ : وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول :" لِيقم زيدٌ " وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني : لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً ؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث :" لتأخُذُوا مصافَّكُم " بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة " افْعَلْ " نحو : قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو :" لأقُمْ " تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - " قُومُوا فلأصَلَّ لكُم " ومثال الثاني : لِنَقُمْ، أي : نحن، وكذلك النَّهْي ؛ ومنه قول الشَّاعر :[الكامل] ٢٩٠٨ - إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ " دِمشْقَ " فلا نَعُدْ
لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ
ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر : أنَّه قرأ :" فَلتَفْرَحُوا " خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه.
وقرأ الحسن، وأبو التياح :" فَليَفْرَحُوا " بكسر اللام، وهو الأصل.
قوله :﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ " هو " عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين ؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ.
وقرأ ابن عامر :" تَجْمَعُون " بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين :
٣٥٨
أحدهما : أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله :" فَلْيَفْرَحُوا ".
والثاني : أنَّه خطاب لقوله :﴿ يا أيها النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ﴾ وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله " فَلْيَفْرَحُوا " كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً.

فصل قال مجاهد وقتادةُ : فضل الله : الإيمان، ورحمته : القرآن.


وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - : فضل الله : القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر : فضلُ الله : الإسلام، ورحمته : تزيينهُ في القلب، وقال خالدُ بن معدان : فضلُ الله : الإسلام، ورحمته : السُّنَن.
وقيل : فضل الله : الإيمان، ورحمته : الجنَّة، ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ أي : لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أي : خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٥٦
قوله - تعالى - ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ﴾ الآية.
قال ابن الخطيب : ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها.
والذي يخطر بالبال وجهان : الأول : أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة، وذلك أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال للقوم :" إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء، وحرمة بعضها،
٣٥٩


الصفحة التالية
Icon