فصل قيل : المعنى : إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى -، يعطي ما يشاء لعباده، والغرضُ منه : أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم، ونظيره :﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [المجادلة : ٢١] ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر : ٥١].
قال الأصمُّ : المراد : أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم، ويخوفونك بها، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى -، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء، وينصرك، وينقل أموالهم وديارهم إليك.
فإن قيل : قوله :﴿إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً﴾ كالمُضادَّة لقوله :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون : ٨].
فالجواب : لا مضادَّة ؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله، فهي لله.
﴿هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي : يسمع ما يقولون، ويعلمُ ما يعزمون، فيُكافئهم على ذلك.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٦٢
قوله تعالى :﴿أَلا اا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة :﴿أَلا اا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس : ٥٥] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى -، ومِلْكٌ لهُ، وههنا أتى بكلمة " مِنْ " وهي مختصَّة بالعقلاء ؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه.
وقيل : المراد بـ " من في السَّمواتِ " : العقلاء المُمَيَّزُون، وهم الملائكة والثقلان، وخصَّهم بالذِّكر ؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى -، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويجوز أن يراد العموم، وغلب العاقل على غيره.
قوله :" وَمَا يَتَّبِعُ " يجوز في " ما " هذه أن تكون نافية، وهو الظاهر، و " شُرَكَاء " مفعولُ
٣٧٠
" يتَّبعُ " ومفعول " يَدْعُون " محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير : وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ، فآلهة : مفعول " يَدْعُونَ " و " شركاء " : مفعول " يتبع "، وهو قول الزَّمخشريّ.
قال :" ومعنى وما يتَّبعون شركاء : وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء ؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال :" ويجوز أن تكون " ما " استفهاماً، يعني : وأيَّ شيءٍ يتَّبعون، و " شركاء " على هذا نصب بـ " يَدْعُونَ "، وعلى الأوَّل بـ " يتَّبع " وكان حقُّه :" وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء " فاقتصر على أحدهما للدلالة ".
وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء.
أما مكي، فقال : انتصب " شركاء " بـ " يَدْعُون " ومفعول " يتَّبع " قام مقامه ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ لأنَّهُ هو، ولا ينتصبُ الشُّركاء بـ " يتَّبع " لأنَّك تنفي عنهم ذلك، والله قد أخبر عنهم بذلك.
وقال أبو البقاء :" وشركاء مفعولُ " يَدْعُونَ " ولا يجوزُ أن يكون مفعُول " يتَّبعون " لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء، وليس كذلك ".
قال شهاب الدِّين :" معنى كلامهما : أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء ".
وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى : أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم، ومثله قولك :" ما رأيتُ رجلاً "، أي : مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم، ويجوز أن تكون " ما " استفهاميَّة، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك.
وقال مكِّي : لو جعلت " ما " استفهاماً بمعنى : الإنكار والتَّوبيخ، كانت اسماً في موضع نصبٍ بـ " يتَّبع ".
وقال أبو البقاء نحوه.
ويجوز أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " نسقاً على " مَنْ " في قوله :﴿أَلا اا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات﴾.
قال الزمخشري : ويجوز أن تكون " ما " موصولة معطوفة على " مَنْ " كأنَّهُ قيل : ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء، أي : وله شركاؤهُم.
ويجوز أن تكون " ما " هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره : والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ، فهذه أربعة أوجهٍ.
وقرأ السلمي :" تَدعُون " بالخطاب، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب.
٣٧١