قوله تعالى :﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ الآية.
لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل، والجواب عن الشُّبه، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه :
٣٧٤
الأول : أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم ؛ فربَّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر، انشرح، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً.
الثاني : ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه، خفَّ ذلك على قلبه، كما يقال : إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ.
الثالث : أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة، ونصرهم، وأيَّدهُم، وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص، سبباً لانكسار قلوبهم، ووقوعِ الخوف في صدورهم ؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة.
الرابع : أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ، ومن غير زيادة ولا نقصان، دلَّ ذلك على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل، وحذفت الواو من " اتْلُ " لأنه أمر.
قوله :" إذْ قال " يجوز أن تكون " إذْ " معمولةً لـ " نَبَأ " ويجوز أن تكون بدلاً من " نَبَأ " بدل اشتمال، وجوَّز أبو البقاء : أن تكون حالاً من " نَبَأ " وليس بظاهر، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً بـ " اتلُ " لفساده ؛ إذ " اتْلُ " مستقبلٌ، و " إذ " ماضٍ، و " لِقوْمِهِ " اللام : إمَّا للتبليغ، وهو الظاهرُ، وإمَّا للعِلَّة، وليس بظاهرٍ.
قال المفسرون :" قون نُوح هم : ولد قابيل ".
قوله :﴿كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي﴾ من باب الإسناد المجازيِّ ؛ كقولهم :" ثَقُلَ عليَّ ظلُّه ".
وقرأ أبو رجاء، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء :" مُقَامِي " بضمِّ الميم، و " المقام " بالفتح : مكان القيام، وبالضم : مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها.
وقال ابن عطيَّة :" ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم ".
كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء.
قال الواحدي : يقال : كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء، إذا عظم، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة، قال ابن عبَّاس :" ثقُل عليكم، وشقَّ عليكم " وأراد بالمقام ههنا : مُكْثَهُ.
وسبب هذا الثِّقل أمران : الأول : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً.
والثاني : أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة، ومن ألف طريقة
٣٧٥
في الدِّين ؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها ؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ، كان أثقل، وأشدّ كراهية، وقوله ﴿وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ : بحُجَجِه وبيناته.
قوله :﴿فَعَلَى اللَّهِ﴾ جواب الشَّرط، وقوله ﴿فَأَجْمِعُوا ااْ﴾ عطف على الجواب، ولم يذكر أبُو البقاء غيره، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ.
وقيل : جوابُ الشَّرط قوله :" فأجْمِعُوا " وقوله :﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه ؛ وهو كقول الشاعر :[الكامل] ٢٩١٢ - إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ
غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣٧٤
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ
ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ
وقيل : الجوابُ محذوفٌ، أي : فافْعَلُوا ما شِئْتُم.
وقرأ العامَّة " " فأجْمِعُوا " أمْراً من " أجْمَع " بهزة القطع، يقال : أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، فيقال : أجْمَعْتُ أمري، وجمعتُ الجيشَ، هذا هو الأكثر.
قال الحارثُ بن حلِّزة :[الخفيف] ٢٩١٣ - أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا
أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ
وقال آخر :[الرجز] ٢٩١٤ - يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ
هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ ؟
وهل أجمع متعدِّ بنفسه، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً ؟ فقال أبو البقاء : من قولك أجمعتُ على الأمْرِ : إذا عزمتَ عليه ؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه، وقيل : هو متعدٍّ بنفسه، وأنشد قول الحارث.
وقال أبو فيد السَّدُوسي : أجمعت الأمر، أفصحُ من أجمعت عليه.
وقال أبو الهيثم : أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً، قال : وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا، ومرَّة افعل كذا، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ، فقد جمعه أي : جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإجماع، ثم صار بمعنى : العزْم، حتى وصل بـ " عَلَى " فقيل : أجمعتُ على الأمر ؛ أي : عَزَمْتُ عليه، والأصلُ : أجمعتُ الأمرَ.
٣٧٦


الصفحة التالية
Icon