سورة هود
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٢٥
" كِتَابٌ " يجوز أن يكون خبراً لـ :" ألف لام راء "،  أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ.
قال الزجاج : هذا غلطٌ ؛ لأنَّ " الر " ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه،  ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ.
قال ابن الخطيب :" وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين " : الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله :" الر " كلاماً باطلاً لا فائدة فيه.
والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ،  فقولك :" هذا " يكون إشارة إلى الآيات المذكورات،  وذلك هو قوله :" الر " فيصير حينئذ " الر " مخبراً عنه بأنه ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾.
وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله :﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة : ٢] قوله :﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ في محلِّ رفع صفةً لـ " كِتابٌ "،  والهمزةُ في " أُحْكِمَتْ " يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ،  أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ،  كقوله :﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [لقمان : ٢].
ويجوز أن يكونَ من قولهم :" أحْكمتُ الدَّابَّة " إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ ؛ كقول جريرٍ :[الكامل]
٤٢٧
٢٩٤١ - أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ
إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا
فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ.
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل،  من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ،  والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً.
ويجوز أن يكون قوله :" أحْكِمَتْ " أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها.
قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -.
قوله :" ثُمَّ فُصِّلَتْ " " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ.
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية " فَصَلَتْ " بفتحتين خفيفة العين.
قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ،  كقوله :﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ﴾ [البقرة : ٢٤٩]،  أي : فارق وفسَّرها غيرهُ،  بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ،  وهو أحسنُ.
وجعل الزمخشريُّ " ثم " للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ،  فقال : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " ؟ قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت،  ولكن في الحالِ،  كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام،  مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل،  وفلانٌ كريمُ الأصل،  ثُمَّ كريمُ الفعل.
وقرىء أيضاً :" أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ " بإسناد الفعلين إلى " تاءِ " المتكلم،  ونصب " آياته " مفعولاً بها،  أي : أحكمتُ أنا آياته،  ثم فصَّلتها،  حكى هذه القراءة الزمخشري.
فصل قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي،  ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض.
وقال مجاهدٌ :" فُصِّلتْ " أي : فسرت
٤٢٨
وقيل :" فُصِّلَتْ " أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى :﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ﴾ [الأعراف : ١٣٣]،  وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً،  وحراماً،  وأمثالاً،  وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً.
فصل احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ : الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله،  ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن،  لَمْ يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ،  ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم،  ثم جعله الله مُحْكَماً ؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً،  ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ.
الثاني : أنَّ قوله :" فُصِّلَتْ " يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق،  ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل.
الثالث : قوله تعالى :﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾،  والمرادُ من عنده،  والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر ؛ لأنَّهما إن كانا قديمين،  لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ،  ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
قوله :" مِن لَّدُنْ " أي : من عند،  يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة لـ " كِتَابٌ " وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك،  ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني :" أحْكِمَتْ " أو " فُصِّلَتْ " ويكون ذلك من باب التنازع،  ويكون من إعمال الثاني،  إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني،  وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة " أحكمت " " فُصِّلتْ "،  أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا،  والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها،  أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ.
قال أبُو حيان : لا يريدُ أنَّ " مِنْ لدُن " متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب،  بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال،  فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى،  وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً،  والعاملُ فيه فُصِّلَتْ.
قوله :" أن لا تَعْبدُوا " فيه أوجهٌ : أحدها : أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة،  و " لا تَعْبُدُوا " جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً لـ " أنْ " المخففة،  واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ.
والثاني : أنَّها المصدرية النَّاصبة،  ووصلت هنا بالنَّهي،  ويجوز أن تكون " لا " نافية، 
٤٢٩