أحدهما : أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ بـ " يَثْنُونَ " كذا قاله الحوفيُّ، والمعنى : أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ.
وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه.
والثاني : أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ.
قال الزمخشريُّ :" لِيَسْتخُفُوا منهُ " يعنى ويريدون : ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ، ونظيرُ إضمار " يريدون " لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله :﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ﴾ [الشعراء : ٦٣] معناه :" فضرب فانفلق ".
قال شهاب الدين : وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره ؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل " فضرب فانفلق "، وأمَّا في هذه، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ.
والضَّميرُ في " مِنْهُط فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم بـ " يَثْنُونَ ".
والثاني : أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ.
قوله :﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ في هذا الظرف وجهان : أحدهما : أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ، فقدَّره الزمخشري بـ " يريدون " كما تقدم، فقال : ومعنى (ألا حين يستغشون ثيابهم) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله، كقول نُوحٍ ﴿جَعَلُوا ااْ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح : ٧]، وقدَّره أبو البقاء فقال :(ألا حين يستغشون ثيابهم) : يستخفون.
والثاني : أنَّ النَّاصب له " يَعْلَمُ "، أي : ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره ؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت.
وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ.
و " ما " يجُوزُ أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى " الذي "، والعائدُ محذوفٌ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه.
فصل قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ، وكان رجلاً حلو
٤٣٧
الكلام حلو المنظر، يلقى رسول الله ﷺ بما يحبُّ، وينطوي له بقلبه على ما يكره.
فقوله :﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ.
قال عبدُ الله بنُ شداد : نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ بالنبي ﷺ ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطَّى وجهه، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه -.
قال قتادة : كانوا يخفون صدورهم، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره.
وقيل : كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحْنِي ظهرهُ، ويتغشَّى بثوبه، ويقول : هل يعلمُ الله ما في قلبي.
وقال السُّدي :" يَثْنُونَ صُدورَهُمْ " أي : يُعرضُون بقلوبهم، من قولهم : ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي : من رسول الله - صلوات ا لله وسلامه عليه -.
وقال مجاهدٌ : من الله عز وجل.
﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ يغطون رؤوسهم بثيابهم و " ألا " كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم.
ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه :﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله ﷺ لا يخفى علينا حالهم.
وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رضي الله عنه - ؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ قال : كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السَّماءِ ؛ فنزل ذلك فيهم.
لمَّا ذكر أنه :﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله ؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات.
٤٣٨