وقال أبو البقاء : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب ؟.
و " لَوْلاَ " تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول.
فصل المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - ﷺ - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً ؛ فأنزل الله تعالى :﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ يعنى سب الآلهة :﴿وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ أي : ولعلَّ يضيق صدرك ﴿أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله :﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك.
وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والرغض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟ فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
ومعنى " وكيلٌ " : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى :﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً﴾ [الإسراء : ٩٠] إلى قوله :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء : ٩٣].
قوله تعالى :﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود : ١٣].
لمَّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً.
و في " أمْ " هذه وجهان : أحدهما : أنها منقطعةٌ فتقدَّر بـ " بَلْ " والهمزة، فالتقدير : بل أتقولون افتراه.
والضمير في " افتراهُ لما يوحى.
والثاني : أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله ؟ قوله " مِثْلِهِ " نعت لـ " سُورٍ " و " مثل " وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى :﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون : ٧٤] ويجوز المطابقة.
قال تعالى :﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ﴾ [الواقعة : ٢٢، ٢٣] وقال تعالى :﴿ثُمَّ لاَ يَكُونُوا ااْ أَمْثَالَكُم﴾ [محمد : ٣٨].
قال ابن الخطيب :" مِثلِهِ " بمعنى " مثاله " حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع ؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد.
والهاء في " مِثْلِهِ " تعود لما يوحى أيضاً، و " مُفْترياتٍ " صفة لـ " سُورٍ " جمع " مُفْتراة " كـ " مُصْطفيَات " في " مُصْطَفاة " فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.
فصل قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال،