واللاَّمُ في " للَّذينَ " للتَّعليل، أي : لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس " لن يُؤتيكُم " بالخطاب.
قوله تعالى :﴿قَالُواْ يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
قرأ ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - " جَدَلنا " كقوله :﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف : ٥٤].
ونقل أبو البقاء أنه قرىء " جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا " بغير ألفٍ فيهما، وقال :" هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ ".
وقوله :" بِمَا تَعِدُنَا " يجوزُ أن يكون " ما " بمعنى " الذي "، فالعائدُ محذوفٌ، أي : تَعدناه.
ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي : بوعدك إيَّانا.
وقوله :" إن كنت " جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو " فَأتِنَا ".
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا :﴿فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ثُمَّ إنه - عليه الصلاة والسلام - أجابهم بقوله :﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ﴾ [هود : ٣٣] أي : أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه، أي : لا يمنعه.
٤٧٦
ثم قال :﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى ﴾ إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، أي : يضلكم، قوله :﴿إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ﴾ قد تقدَّم حكم توالي الشرطين، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل، وقال الزمخشريُّ هنا :" إنْ كانَ اللهُ " جزاؤه ما دل عليه قوله :" لا يَنْفعُكم نُصْحِي ".
وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه ؛ فوصل بشرطٍ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله :" إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني ".
وقال أبو البقاء : حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو :" إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ " فقولك :" إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك " جوابُ " إنْ أتَيْتَني " جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني، وقد جاء في القرآن منه ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ﴾ [الأحزاب : ٥٠].
قال شهابُ الدِّين : أما قوله :" إنْ وهبَتْ...
إنْ أرادَ " فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة، لمَّا وهبت أراد نكاحها، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها، فوهبت، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه.
وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو بـ " نُصْحِي " وتعلُّقُ الآخر بـ " لا يَنْفَعُ ".
وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله :" ولا يَنْفَعُكُمْ " لأنَّهُ عقبهُ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير : وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي.
وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو : إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي.
وقرأ الجمهور :" نُصْحي " بضم النونِ، وهو يحتملُ وجهين : أحدهما : المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني : أنه اسمٌ لا مصدرٌ.
وقرأ عيسى بن عمر " نَصْحي " بفتح النُّون، وهو مصدرٌ فقط.
٤٧٧