فصل دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم ؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً.
والأولُ باطلٌ ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين.
والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً، مع أنَّهم كانوا مأمورين به، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه، وقد أخبر أنَّهُ ﴿...
لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾
فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين.
قوله تعالى :﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾.
" بأعْينِنَا " حالٌ من فاعل " اصْنَع " أي : محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ.
وقيل : المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي : الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ.
وقرأ طلحةُ بنُ مصرف " بأعْيُنَّا " مدغمة.
فصل قوله تعالى :﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ الظَّاهر أنه أمر إيجاب ؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له.
وأما قوله :" بأعْيُنِنَا " فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ :
٤٨١
أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قوله تعالى :﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ﴾ [طه : ٣٩].
وثانيها : أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين، كقولك : قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها : أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء، والأبعاض ؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل، وهو من وجوه : الأول : معنى " بِأعْيُنِنَا " أي : بنزول الملك ؛ فيعرفه بخبر السفينة، يقال : فلان عين فلان أي : ناظر عليه.
والثاني : أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه ؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ، فلهذا قال المفسِّرون : معناه : بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك، ويملك دفع السُّوء عنك.
وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين : أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل.
والثاني : أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها.
وقوله :" وَوَحْيِنَا " إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة.
وقوله :﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ااْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ فقيل : لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال :﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ [نوح : ٢٦].
وقيل :" لا تُخَاطِبْنِي " في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً.
وقيل : المرادُ بـ " الذينَ ظلمُوا " بانه وامرأته.
قوله :﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ قيل : هذا حكايةُ حال ماضيه أي : في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك.
وقيل : ألتقديرُ : وأقبل يصنع الفلك، فاقتصر على قوله :" يَصْنَع ".
قيل : إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال : إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك، فقال : كيف أصنع ولست بنجَّارٍ ؟ فقال : إنَّ ربَّك يقولُ : اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي، فأخذ القدوم، وجعل يصنعُ ولا يخطئ.
وقيل : أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر.
روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال :﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ [نوح : ٢٦] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة ؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى.
وقيل : في أربعين سنة، وكانت من خشب الساج.
وفي التوراة أنها من الصنوبر.
قال البغويُّ - رحمه الله - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين
٤٨٢


الصفحة التالية
Icon