وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره : لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة.
وأمَّا خبرُ " لا " فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير : لا عاصم موجودٌ.
وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم.
قال الحوفيُّ : ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق " منْ أمْرِ اللهِ ".
وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال : فأمَّا خبرُ " لا " فلا يجوزُ أن يكون " اليَوْمَ " ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ " مِنْ أمْرِ الله " و " اليَوْمَ " معمولُ " مِنْ أمْرِ اللهِ ".
وأمَّا اليَوْمَ " و " مِنْ أمْرِ الله " فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً، ويجوزُ في " اليَوْمَ " أن يتعلق بنفس " مِنْ أمْرِ الله " لكونه بمعنى الفعل.
وجوَّز الحوفيُّ أن يكون " اليَوْمَ " نعتاً لـ " عَاصِمَ " وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة.
وقرىء " إلاَّ مَنْ رُحِمَ " مبنيّاً للمفعول، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ " مَنْ رَحمَ " في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم، كما تقدَّم تأويلهُ.
ولا يجوزُ أن يكون " اليوْمَ " ولا " مِنْ أمْرِ الله " متعلقين بـ " عَاصم " وكذلك الواحد منهما ؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب، ومتى أعرب نُوِّن، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم " لا " معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً.
ثم قال سبحانه وتعالى :﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ﴾ فصار ﴿مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً، وقيل : خمسة عشر ذراعاً.
قوله تعالى :﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ﴾ قيل : هذا مجاز، لأنَّها موات.
وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به.
والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة وصفها، واشتمال المعاني فيها.
والبلعُ معروفٌ.
والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء.
قيل : والفصيحُ " بَلِعَ " بكسر اللام " يَبْلَع " بفتحها.
والإقلاعُ : الإمساك، ومنه " أقْلَعَت الحُمَّى ".
وقيل : أقلع عن الشيء، أي : تره وهو قريبٌ من الأول.
والغَيْضُ : النقصان، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً، ومغاضاً إذا نقص، وغضته أنا.
وهذا من باب فَعَلَ
٤٩٧
الشيءُ وفعلتهُ أنا.
ومثله فغر الفَمُ وفغرته، ودلع اللسانُ ودلعتهُ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه، وفعله لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى :﴿وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ﴾ [الرعد : ٨]، أي : تَنْقُص.
وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ] بنفسه.
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ، منه قول عمرو بن نفيل :[البسيط] ٢٩٧٦ - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ
وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٨٠
قال شهابُ الدين : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ.
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء " الجُودِيْ ".
قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي.
قوله " بُعْداً " منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال :[الطويل] ٢٩٧٧ - يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ
ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ


الصفحة التالية
Icon