ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به " لَكَ "، والباء بمعنى " في "، أي ما ليس لك به علمٌ.
وفيه نظرٌ.
ثم قال :﴿إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ يعني أن تدعو بهلاك الكفار، ثم تسأل نجاة كافر ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك.
قوله :﴿وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي﴾ لم تمنع " لا " من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو :" جِئْتُ بلا زادٍ " قال أبو البقاء :" لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك " مَا " فإنَّها تنفي ما في الحالِ ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل " إنْ " عليها ".
قوله :﴿قِيلَ يا نُوحُ﴾ الخلافُ المتقدم في قوله :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ﴾ [البقرة : ١٣ و ٩١] وشبهه عائدٌ هنا، أي : في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل.
قوله :" بِسَلاَمٍ " حالٌ من فالع " اهْبِطْ " أي : مُلْتَبساً بسلامٍ.
و " مِنا " صفةٌ لـ :" سَلام " فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس " سلام "، وابتداءُ الغاية مجازٌ، وكذلك " عَلَيْكَ " يجوز أن يكون صفة لـ " بَركات " أو متعلقاً بها.
ومعنى " اهْبِطْ " انزل من السفينة، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً، ثم بالبركةِ ثانياً.
٥٠٢
والبركة : ثبوت الخير ومنه بروك البعير، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها، ومنه ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ [الأعراف : ٥٤] أي : ثبت تعظيمه وقيل : البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال :﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ قيل : المرادُ الذين معه، وذرياتهم، وقيل : ذريَّة من معهُ.
قوله ﴿مِّمَّن مَّعَكَ﴾ يجوز في " مَنْ " أن تكون لابتداء الغاية، أي : ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة ؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ.
وقُرِىء " اهْبُط " بضمِّ الباءِ، وقد تقدَّم أول البقرة، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - " وبركة " بالتوحيد.
قوله :" وأمم " يجوزُ أن يكون مبتدأ، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " خبره، وفي مسوغ الابتداء وجهان : أحدهما : الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ : وأممٌ منهم، أي : ممَّن معك كقولهم :" السَّمْن منوان بدرهم " فـ " مَنَوان " مبتدأٌ وصفَ بـ " منه " تقديراً.
والثاني : أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو :" النَّاسُ رجلان : رجلٌ أهَنْتُ، وآخرُ أكْرَمْتُ " ومنه قول امرىء القيس :[الطويل] ٢٩٧٩ - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ
بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥٠٠
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في " اهْبِطْ " وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل، قاله أبو البقاء.
قال أبو حيَّان : وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين ؛ لقوله :﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ.
وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ، في قوله ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة : ٣٥] لأمرٍ صناعي، و " سَنُمَتِّعُهُمْ " على هذا صفةٌ لـ " أمم "، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ : كما تقولُ : كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس " ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق.
واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ.
ثم قال :﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ﴾ وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله ﴿ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ [آل عمران : ٤٤] في آل عمران.
و " تلك " في محلِّ رفع على الابتداء، و ﴿مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ﴾ الخبر، و " نُوحِيهَا إليْكَ " خبر ثان.
٥٠٣


الصفحة التالية
Icon