يريد : سلامٌ ؛ بدليل : فسلَّمَتْ.
وقال الفارسي :" السِّلْم " بالكسر ضد الحربِ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم، أنكرهم، وأوجس منهم خيفة، فقال : أنا سِلْم، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم، فلم تمتنعوا من تناول طعامي ؟ قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام ؛ لأنَّه تعالى قال :﴿قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ والفاءُ للتَّعقيب، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام.

فصل أكثر ما يستعمل " سلامٌ عليكم " منكّراً ؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم : خير بين يديك.


فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ ؟.
٥٢٠
فالجوابُ : إذا وصفت جاز، فإذا قلت :" سلامٌ عليكم " فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام، فكأنه سلام كامل تام عليك، ونظيره قوله تعالى :﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى ﴾ [مريم : ٤٧] وقوله :﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس : ٥٨] وقوله :﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد : ٢٣، ٢٤].
وأما قوله :﴿وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه : ٤٧] فالمراد منه الماهية والحقيقة.
قال ابنُ الخطيب : قوله :" سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " أكملُ من قوله :" السَّلامُ عليْكُم " ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية.
قوله :" فَمَا لَبِثَ " يجُوزُ في " ما " هذه ثلاثة أوجه : أظهرها : أنَّها نافيةٌ، وفي فاعل " لَبِثَ " حينئذٍ وجهان : أحدهما : أنَّه ضميرُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أي : فَمَا لَبِثَ إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّرُوه بالباء و بـ " عَنْ " وبـ " في "، أي : فمَا تأخَّر في أنْ، أو بأن، أو عن أن.
والثاني : أنَّ الفاعل قوله :" انْ جَاءَ "، والتقدير : فَما لبثَ، أي : ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين.
وثاني الأوجه : أنَّها مصدريةٌ.
وثالثها : أنَّها بمعنى الذي.
وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره : فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه.
قال القرطبيُّ : قوله :" أنْ جَاءَ " معناه : حتَّى جَاءَ.
والحَنِيذُ : المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة، يقال : حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ، أي : مَحْنُوذة.
وقيل : حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ الفرس، أي : سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق.
ثم قال :﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ أي : إلى العِجْلِ.
وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل.
قوله :" نَكِرَهُمْ " أي : أنكرهم، فهما بمعنى واحد ؛ وأنشدوا :[البسيط] ٢٩٨٧ - وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ
مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥١٩
٥٢١
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني، وجعل البيت من ذلك، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ، وهما يُبْصرانِ ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ :[الكامل] ٢٩٨٨ - فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ
هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ
والإيجاس : حديث النَّفس، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ.
وقال الأخفش :" خَامَر قلبه ".
وقال الفرَّاء :" اسْتَشْعَرَ وأحسَّ ".
والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ ؛ وأنشدوا على ذلك وقله :[الطويل] ٢٩٨٩ - وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى
لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ


الصفحة التالية
Icon