ثم قال :﴿إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
فإن قيل : كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى ؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ ؟.
فالجواب : أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ.
ثم قالت الملائكةُ :﴿قَالُوا ااْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي : لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان.
قوله :﴿رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ أي : بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى : رحمةُ الله عليكم متكاثرة، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة، وهي النبوة، والمعجزات القاهرةُ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فلا تعجبي من ذلك.
وقيل : هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة.
وقيل : على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة.
و " البركاتُ " جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ.
فإن قيل : ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات ؟.
فالجواب : قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله :﴿أُولَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة : ١٥٧].
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ، فهو شيءٌ واحدٌ، فلا معنى لجَمْعِهِ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه.
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم، وأمَّا البركةُ : فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها ؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ، وهو قوله : السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.
وقوله :" عَلَيْكُم " حكى سيبويه " عَلَيْكم " بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ.
قوله :" أهْلَ البيتِ " في نصبه وجهان : أحدهما : أنه مُنَادَى.
والثاني : أنه منصوبٌ على المدح.
وقيل : على الاختصاص، وبين النَّصبين فرقٌ :
٥٢٨
وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ، أو ذمٍّ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ، ولا الذَّم ؛ كقوله :[الرجز]
٢٩٩٤ - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ
كذا قاله أبو حيَّان، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظرٌ.
ثم قال : إنه حميدٌ مجيدٌ، فالحميد : المحمود، والمجيدُ : فعيل، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة، ويقال : مَجُد كـ : شَرُف وأصله : الرِّفْعَة.
وقيل : من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً، أي : شَبِعَتْ ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي :[الوافر] ٢٩٩٥ - تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ
بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٥١٩
أي] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ.
وقيل : مَجَد الشَّيءُ : أي : حَسُنَتْ أوصافُهُ.
وقال الليثُ - رحمه الله - :" أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي : كثَّرَهُ ".
والمجيدُ : المَاجدُ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ.
قوله :﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾، أي : الفزعُ ؛ قال الشَّاعرُ :[الطويل] ٢٩٩٦ - إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ
بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال : رَاعَهُ يَرُوعُه، أي : أفزعهُ ؛ قال عنترةُ :[الكامل] ٢٩٩٧ - ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا
وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع : افتعل منه ؛ قال النابغة :[البسيط] ٢٩٩٨ - فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ
طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ.
ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ ؛ وفي الحديث :" إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي ".
قوله :﴿وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى ﴾ عطف على " ذَهَبَ "، وجوابُ " لمَّا " على هذا محذوفٌ
٥٢٩