قوله تعالى :﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ القصة.
أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام -، ثم صار اسماً للقبيلةِ.
وقال كثير من المفسِّرين : مَدْيَنُ اسم مدينة، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف " أهل "، كقوله :﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام - :﴿يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ﴾ ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم، فالأهم، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان، دعاهم إلى تركِ هذه العادة، فقال :﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾.
قوله :" وَلاَ تَنْقُصُوا " :" نَقَصَ " يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ؛ وقد يحذفُ ؛ تقولُ : نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه، وحقَّهُ، وهو هنا كذلك، إذ المرادُ : ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى.
والمعنى : لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون " المِكْيَال " مفعولاً أول، والثاني محذوفٌ، وفي ذلك مبالغة، والتقدير : ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله تعالى :﴿إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة.
وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ ؛ فحذَّرهم زوال النعمة، وغلاء الأسعار، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا.
﴿وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ يحيطُ بكم فيهلككم.
قال ابنُ عبَّاسٍ : أخافُ : أي : أعلم.
وقال غيره : المراد الخوف ؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ.
قوله :" محيطٍ " صفة لليوم، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوُّ، وقوله :﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف : ٤٢].
قال الزمخشري : إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال : لأنَّ
٥٤٣
اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
وزعم قومٌ : أنه جُرَّ على الجوار ؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ : عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون : التقدير : عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه.
قال أبو البقاءِ : وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامةِ.
وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا ؛ كما هُو في حق سائر الأمم.
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها.
قوله :﴿ ويا قوم أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ أي : بالعدل.
فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال :﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ ثم قال ﴿أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾، وهو عين الأول، ثم قال :﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ ؟.
فالجواب من وجوه : الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني : قوله :﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ نهي عن التنقيص، وقوله :﴿أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ : صل قرابتك، ولا تقطعهم ؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم ؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً :﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان.
ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ وفي
٥٤٤


الصفحة التالية
Icon