وقوله :﴿إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ﴾ يتعلَّق بـ " أخَالِفَكُمْ "، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون " أنْ أخالِفكثمُ " مفعولاً من أجله، وتتعلق " إلى " بقوله " أريدُ " بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.
ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به بـ " أُرِيد "، ويقدَّر مائلاً إلى.
والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه :﴿إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾.
قوله :﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾ يجوزُ ما " مَا " هذه الوجوه : أحدهما : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي.
والثاني : أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " بدلاً من " الإصلاح " والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح.
الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ.
الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه ؛ كقوله :[المتقارب] ٣٠٠٦ - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ
يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٤٣
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في " عليهِ " و " إليهِ " للاختصاص أي : عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.
فصل اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس ؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ
٥٤٩
والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله :﴿وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ والتوفيق تسيهل سبيل الخير " عليْهِ توكَّلْتُ " اعتدمت " وإلَيْهِ أنيبُ " أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل : في المَعَادِ.
قوله :﴿لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من " جرم " ثلاثيًّا.
وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من " أجرم " وقد تقدَّم [هود ٢٢] أنَّ " جَرَمَ " يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب ؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله :[الكامل] ٣٠٠٧ - ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً
جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.
والثاني : هو " أنْ يصيبكُم " أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق.
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام " مِثْلُ " رفعاً على أنَّه فاعل " يُصِيبَكُم " وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان : أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح ؛ لإضافته إلى غير متمكن ؛ كقوله تعالى :﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات : ٢٣] وكقوله :[البسيط] ٣٠٠٨ - لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ
حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٤٣
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام : ٩٤].
والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.

فصل والمعنى : لا يكسبنكم " شِقَاقِي " خلافي :" أنْ يُصِيبكم " عاب الاستئصال في الدنيا "


٥٥٠


الصفحة التالية
Icon