قال الزمشخريُّ : فإن قُلت : أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في " سَوْفَ تَعْلَمُونَ " ؟.
قلت : إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت عما مكانتك ؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ ".
ثم قال :﴿وَارْتَقِبُوا ااْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ أي : وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ.
والرقيب : بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع.
قوله تعالى :﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ الآية.
قال الزمخشريُّ : فإن قتل : ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ ؟ قلت : قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله :﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ [هود : ٨١] ﴿ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود : ٦٥] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ :" وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ "، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ ".
قوله :﴿نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾.
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال : لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح، فأمَّا قوم صالح ؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم.
وقوله :﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين.
وفي وله :﴿بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ وجهان : الأول : أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته.
والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال :﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ وعرَّف " الصَّيحة " بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾ تقدم
٥٥٥
الكلام على ذلك [هود : ٦٧، ٦٨] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود ؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
قوله :﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ العامَّةُ : على كسر العين من " بَعِدَ يَبْعَد " بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك ؛ قال :[الطويل] ٣٠١٠ - يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ
ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٤٣
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا :" بَعْد " بالضمِّ ضد القرب، و " بَعِد " بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين.
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة " بَعْدت " بالضم أخذه من ضدِّ القرب ؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر :[الكامل] ٣٠١١ - مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ
شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ
وقال النَّحَّاسُ : المعروفُ في اللغةِ : بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، وإذا هلك، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب.
وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي :" بَعُد " يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و " بَعِد " في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ ؛ وأنشدوا قول مالكٍ :[الطويل] ٣٠١٢ - يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني
وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا
قيل : يروى " لا تَبْعُدْ " بالوجهين.
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان :[الكامل] ٣٠١٣ - إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي
فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ
ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ
٥٥٦
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٥٤٣