وحادي عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة.
وثاني عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر.
وثالث : عشرها : أنَّه استثاءٌ من قوله :" فَفِي النَّارِ " كأَّنَّه قال : إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
ورابع عشرها : أنَّ " إلاَّ ما شاء " بمنزلة : كما شاء ؛ كقوله :﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء : ٢٢]، أي : كما سلف.
وخامس عشرها : أن معناه : لو شك ربُّك، لأخرجهم منها، ولكنه لا يشاءُ ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود، فتكون " ما " نافية.
وسادس عشرها : أنَّه استثناء من قوله :﴿فَفِي النَّارِ﴾ و ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾، أي : إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار، أو في الجنَّة ؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة، فلسُوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها.
قال أبو حيَّان : يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة.
ثم قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ، كأنَّه تعالى يقول : اظهرتُ القهر والقدرة، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة ؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة.
قوله :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ﴾
٥٧٢
قرأ الأخوان حفصٌ " سُعِدُوا " بضمِّ السين.
والباقون بفتحها، فالأولى من قولهم : عسده اللَّهُ، أي : أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ : سعده الله بمعنى أسعده.
وقال الجوهريُّ : سَعِد فهو سَعِيد كـ : سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود.
وقال ابن القشيري : ورد سعده الله فو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد.
وقيل : يقال : سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي.
وحكي عن الكسائي أنَّه قال : هما لغتنان بمعنى يعني : فعل وأفعل.
وقال أبو عمرو ابن العلاءِ : يقال : سُعِدَ الرجلُ، كما يقال : أسعده الله وقال بعضهم : احتجَّ الكسائيُّ بقولهم :" مَسْعو " قيل : ولا حُجَّة فيه ؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم حذف " فهي " وسُمِّي به.
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي " سُعِدوا " مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه.
قال مكيُّ : قراءةُ حمزة والكسائي " سُعدِدوا " بضمِّ السِّين حملاً على قوله :" مسعود " وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم :" مسود "، إنَّما جاء على حذف الزَّواد : كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم : أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال : سعده الله.
وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء : وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ.
فصل قال ابنُ الخطيب : الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله :﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ [التوبة : ٧٢]إلى أن قال :﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة : ٧٢].
قوله :﴿عَطَآءً﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله ؛ لأن قوله : ففِي الجنَّةِ خالدينَ " يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل : يعطيهم عطاءً، و " عطاء " اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله :
٥٧٣


الصفحة التالية
Icon