كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر : ٣٠] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ : يدٌ صناعيُّ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد : أنَّهُ صفةٌ لـ " كُلاًّ " ولذلك قدَّرهُ : بمجموعين، وقد تقدَّم في بعض توجيهات " لمَّا " بالتَّشديد من غير تنوين، أنَّ المنون أصلا، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرف ما فيه وخبر " إنْ " على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم فـ " إنْ " فيها نافية، و " مِنْ " زائدةٌ في النَّفي، و " كل " مبتدأ، و " ليُوفِّينَّهُم " مع قسمة المقدَّر خبرها، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصيرُ التقديرُ بدون " مِنْ " :" وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم " والتنوين في " كلاً " عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري : يعني : وإنَّ كُلُّهُم، وإنَّ جميع المختلفين فه.
وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ " لمًّا " بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ، لا يقدَّر المضافُ إليه " كل " إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ.
التوكيد بـ " إنَّط وبـ " كُلّ " وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر " إنَّ " وبزيداة " ما " عل رأي، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددة، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي، ووعداً صالحاً للطَّائع.
وقرأ العامَّةُ :" يَعْمَلُون " بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين، وقرأ ابنُ هرمز " بِمَا تعملُونَ " بالخطابِ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم.
فصل معنى الآية : أنَّ من عجلت عقوبته، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ، وقوله :﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ توكيد للوعْدِ والوعيد، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان.
٥٨٧
قوله تعالى :﴿فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ﴾ الآية.
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله " فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ " وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال، سواء كان مختصَّا به، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا.
قال ابنُ الخطيب : وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ.
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.
فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين، والوقوفُ عليه صعبٌ ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ - رضي الله عنه - : ما نزلت على رسول الله ﷺ وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم - في جميع القرآن آية أشق من هذه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :" شيبَّني هُود وأخواتها " وروى عن بعضهم قال : رأيت رسول الله ﷺ في المنام، فقلت لهُ : روي عنك أنك قلت :" شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها " فقال : نَعَمْ " قلت : وبأي آية ؟ فقال : قوله :" فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ ".
قوله :﴿كَمَآ أُمِرْتَ﴾ الكافُ في محلِّ النصب، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ : أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي
٥٨٨


الصفحة التالية
Icon