على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها.
فصل قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهمـ وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.
قوله تعالى :﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي : زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ ـ رضي الله عنه.
والتَّسويلُ : تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه.
قال الأزهريُّ :" كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره ".
وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز.
قال الزمخشري :" سوَّلتْ : سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ ".
وإذا عرفت هذا فقوله :" بَلْ " ردُّ لقولهم :" أكَلهُ الذِّبُ " كأنه قال : ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي : زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون.
واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل : عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف :﴿وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف : ٦] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ ـ رضي الله عنه ـ : لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال : كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه.
وعن السدي أنه قال : إنَّ يعقوب ـ عليه السلام ـ قال : إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه ؟.
٤٣
وقيل : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوصُ، فقال : كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.
وقال القاضي :" لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم ؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ القميص صحيحاً ؛ علم كذبهم ".
قال عند ذلك :" فصَبْرٌ جميلٌ " يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي : صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي : أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل.
وقال قطربٌ : معناه فصبري صبرٌ جميلٌ.
وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ ؟.
وضابطه : أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله :[الطويل] ٣٠٦٨ـ فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ
وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٧
وقول الشاعر :[الرجز] ٣٠٦٩ـ يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى
صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى
ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم.
وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر :" فَصْبراً جَمِيلاً " نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ وتخريجها على المصدر الخبري، أي : أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج ؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
٤٤


الصفحة التالية
Icon