" عَنْ " اسماً، ولم يعربوه، وقالوا :" مِن عليه " فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا " عَنْ " على بنائه، وقلبوا ألف " عَلى مع المضمر ؛ مراعاة لأصلها، كذا أجاب الزمخشريُّ، وتابعه أبو حيَّان، ولم يَعزُ لهُ الجواب، وفيه نظرٌ ؛ أما قوله :" مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة، إلى الاسمية، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ، ولهم ذلك مذهبان : الإعرابُ، الحكايةٌ.
أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي : يجعلونه اسماً، فهذا غير معروف.
وأما استشهاده بـ " عَنْ "، و " عَلَى " فلا يفيده ذلك ؛ لأنَّ " عَنْ " حال كونها اسماً بنيت، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها، وأما قلب ألف " عَلَى " مع الضمير، فلا دلالة فيه ؛ لأنَّا عهدنا ذلك، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي، والأولى أن يقال : الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال :" حَاشاً للهِ " منصوباً منوناً، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً ؛ كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ، تقدم منها جلمةٌ، وسيأتي مثلها، إن شاء الله تعالى.
وقيل : في الجواب عن ذلك : بل بُنِيَتْ " حَاشَا " في حال اسميتها ؛ لشبهها بـ " حَاشَا " في ح الِ حرفيَّتها، لفظاً ومعنى، كما بُنيَتْ " عَنْ "، و " عَلَى " لما ذكرناه.
وقال بعضهم : إنَّ اللام زائدة، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر.
واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها، بمجيء المضارع منها ؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ :[البسيط] ٣٠٩٧ـ وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ
وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٧٧
قالوا : تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل، دليلٌ على فعليتها، لا محالة.
وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف ؛ كما قالوا : سوَّفت بزيدٍ، ولو كيت له، أي : قلت له : سوف أفعل، وقلت له : لو كان، ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتملٌ.
وممن رجح جانب الفعلية، أبو علي الفارسي ـ رحمه الله ـ قال :" لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله " حَاشَى للهِ " من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ، أو يكون فعلاً على فاعل، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار ؛ لأنه لا يدخل على مثله ؛ ولأن الحروف لا يحذف
٨٧
منها، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ، فثبت أنه فاعلٌ من " الحَشَا " الذي يراد به الناحية.
والمعنى : أنه صار في حشا، أي : في ناحية، وفاعل " حَاشَى " يوسف، والتقدير : بعد من هذا الأمر ؛ لله، أي : لخوفهِ ".
فقوله :" حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله " مُسلَّمٌ، ولكن ليس هو ـ هنا ـ حرفُ جرِّ، كما تقدم تقريره.
وقوله :" لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً "، ممنوعٌ، ويدل له قولهم :" مُذْ " في " مُنْذُ " إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيف، قالوا : ويدلَّ على أنَّ أصلها :" منذ " بالنون، تصغيرها على " مُنَيْذ " وهذا مقررٌ في بابه.
وقرأ أبو عمرو وحده :" حَاشَا " بألفين الفٌ بعد الحاءِ، وألفٌ بعد الشين، في كلمتي هذه السورة وصلاً، ويحذفها وقفاً ؛ اتباعاً للرسم، كما سيأتي، والباقون بحذف الألف الأخيرة ؛ وصلاً، ووقفاً.
فأما قراءة أب عمرو، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها، وأما الباقون : فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم، ولما طال اللفظُ، حسن تخفيفه بالحذف، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها، كالفارسيّ.
قال الفارسي :" وأما حذفُ الألف، فعلى : لمْ يَكُ، وَلا أدْرِ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة، وقوله :[الرجز]
٣٠٩٨ـ وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني
في شعر رُؤبة، يريد : لَمْ يكن، ولا أدْرِي، ولو ترى، ووصَّاني ".
وقال أبو عبيدة : رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ ـ مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ " حَاشَ لله " بغير ألف، والآخرى مثلها.
وحكى الكسائيُّ : أنه رآها في مصحف عبدالله، كذلك.
قالوا : فعلى ما قال أبُوا عبيد، والكسائي : تُرجَّح هذه القراءةُ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ.
ونقل الفراء : أن الإتمام لغةُ بعض العرب، والحذف لغة أهل الحجاز، قال : ومِنَ العرب من يقول " حَاشَى زَيْداً " أراد " حَشَى لزيدٍ "، فقد نقل الفراء : أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم.
٨٨
وقرأ الأعمش، في طائفة " حِشَى للهِ " بحذف الألفين، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب ؛ وعليه قوله :[الوافر] ٣٠٩٩ ـ حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ.........
........................
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٧٧