سليقته من بني تميمٍ، قرأ " بشرٌ " بالرفع، وهي قراءة ابن مسعودٍ.
فادعاءُ ابن عطية، أنه لم يقرأ به، غير مسلم.
وقرأ العامة :" بَشَرا " بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ، ونصب ينزع حرفِ الخفض، أيّ : بِبشَرٍ.
وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي :" بِشرَى " بكسر الباء، وهي باءُ جرَّ، دخلت على " شِرَى " فهما كلمتان، جارٌّ ومجرورٌ، وفيها تأويلات : أحدهما : ما هذا بمُشْتَرَى، فوضع المصدر موضع المفعول به، كـ " ضَرَبَ الأميرِ ".
الثاني : ما هذا بمباع، فهو ـ أيضاً ـ مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ.
الثالث : ما هذا بثمنٍ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء، وروى عبدُ الوارث، عن أبي عمرو كقراءة الحسن، وأبي الحويرث، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا " مَلِك " بكسر اللام، واحد الملوكِ، نفو عنه ذُلَّ المماليك، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ، وذكر ابنُ عطية : كسْرَ اللام عن الحسنِ، وأبي الحُوَيْرث.
وقال أبو البقاءِ : وعلى هذا قُرىء " مَلِك " بكسر اللام، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً ؛ للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة ؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها، فإنه قال : وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي : ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ، " إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ "، تقول :" هذا بِشرَى "، أي : حاصلٌ بِشرَى، بمعنى مُشْترَى، وتقولك هذا لك بِشرَى، أو بِكِرَى " والقراءةُ هي الأولى ؛ لموافقتها المصحف، ومطابقة " بَشَر " لـ " مَلِك ".
قوله " لموافقتها المصحف " يعني أنَّ الرَّسم :" بَشَراً " بالألفِ، لا بالياءِ، ولو كان المعنى على " بُشْرَى " لرسم بالياءِ، وقوله :" ومُطابَقة بشراً الملك "، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ.
فصل في معنى قوله :﴿مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وجهان : أشهرهما : أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له، قالوا : لأنه ـ تعالى ـ ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان،
٩١
ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم :﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ [الصافات : ٦٥] وذلك لما تقرَّر في الطبائع، أنَّ أقبح الأشياءِ، هو الشيطانُ، فكذا هاهنا، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ، هو الملكُ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك، وقلن :" إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ " على الله من الملائكة.
والوجه الثاني : قال ابنُ الخطيب : وهو الأقربُ عندي، أن المشهور عند الجمهور، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ، وحوادث الغضب، ونوازع الوهم، والخيال، فطعامهم توحيد الله، وشرابهم الثناءُ على الله، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف، لم يلتفتْ إليهن، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ، وهَيْبة الرسالةِ، وسيما الطَّهارة، قلن : ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانيةِ، ودخل في الملائكة، فإن قالوا : فإن كان المرادُ ما ذكرتم، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ ؟ فالجواب قد سبق.
فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية، وإدخاله في الملكيِّة، سبباً لتعظيم شأنه، وإعلاء مرتبتة، وإنما يكون كذلك، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر.
ثم نقول : لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن، والأول باطلٌ لوجهين : الأول : أنهن وصفنه بكونه كريماً ؛ بحسب الأخلاق الباطنة، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة.
والثاني : أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة، وأما كونه بعيداً عن الشهوة، والغضب، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله، مستغرق القلبِ والرُّوحِ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ، وبين الملائكةِ.
إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسانِ بالملكِ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة ؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية، إنَّما وقع في الخُلق الباطن، لا في الصُّورة الظاهرةِ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل.
قوله :" فَذلِكُنَّ " مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان
٩٢


الصفحة التالية
Icon