١٠٦
فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه، فقال : أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ.
ثم إنه تعالى :﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا ااْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم ؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه : الخلقُ، و الإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة ؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ.
ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [لحدوث] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب.
ثم إنه ـ تعالى ـ إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ ؛ فلهذا قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
قوله " أمَرَ " يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و " قد " معه مرادة عند بعضهم.
قال أبو البقاءِ : وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه.
يعني بالعامل : ما تضمنه الجَارُّ في قوله " إلاَّ الله " من الاستقرار.
قوله تعالى :﴿يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي﴾، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية " فيُسْقِي " بضم حرفِ المضارعة من " أسْقَى " وهما لغتان، قال : سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و ﴿نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ [النحل : ٦٦]، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ ؟.
ونقل ابنُ عطيَّة، عن كرمة، والجحدريِّ : أنَّهما قرءا " فيُسْقَى ربُّهُ " مبنيًّا للمعفول، ورفع " ربُّهُ "، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط.
١٠٧
فصل اعلم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال :﴿يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا﴾، وهو صاحبُ الشَّراب " فيَسْقِي ربَّهُ " : يعني الملك، وأما الآخرُ : يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه ؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه.
قال ابنُ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ :" لمَّا سَمِعَا قول يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالا : مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ "، قال يوسف :" قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ ".
فإن قيل : هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكره ؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله ـ تعالى ـ أو نباءً على علم التَّعبير.
والأول باطلٌ ؛ لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله :﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا﴾، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ.
والثاني ـ أيضاً ـ باطلٌ ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ : هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ ؟.
والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله ـ تعالى ـ أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [التَّعبير].
ولا يبعد ـ أيضاً ـ أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.
وقوله " قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ " ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.
قوله :" قُضِيَ الأمْرُ " قال الزمخشريُّ :" ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ ؟ قلتُ : المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما يُجِنَا من أ جله، والمعنى : فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان ".
١٠٨


الصفحة التالية