فصل روى الزمخشريُّ : أنَّ الملك أخرج خاتم الملك، ووضعه في أصعبه، وقلَّده سيفه، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت، فقال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أما السريرُ، فأشدُّ به ملكك، وأما الخاتمُ، فأدبِّر به أمرك، وأمَّا التَّاجُ، فليس من لِباسِي، ولا لِباسِ آبائي، وجلس على السَّرير، ودان له القومُ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال : أليس هذاخيراً مما طلبتِ ؟ فوجدها عذراء، فأصابها، فولدت له إفرائيم، وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك، وكثير من النَّاس، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف.
قال وهبٌ، السديُّ، وابن عبَّاس، وغيرهم : ثم دخلت السنون المحصبة، فأمر يوسف بإصلاح الزراع، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت، ثم بنَى لها المخازن، فجمعت فيها ف يتلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن ؛ لكثرتها، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك، حتى انقضتِ السبع المخصبة، وجاءت السنونُ المجدبةُ، فنزل جبريلُ ـ عليه السلام ـ وقال : يا أهلَ مِصْر : جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين، فجعل الناسُ ينادون : الجُوع الجُوع، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدَّوابِّ، ثم بالضياع، ثم بالعقار، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم ؛ فقالوا : والله، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له، قال : إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكاتن لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين.

فصل قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ " نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ " أي : بنِعْتِنَا.


﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني الصابرينَ، هذا في الدنيا، ﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ﴾ : ثواب الآخرة خير.
قال ابن الخطيب قوله تعالى :﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ؛ لأن إضافة الأجر إما أن تكون للعجزِ، أو للجهلِ، أو للبخلِ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ فكانت الإضاعة ممتنعة، وهذه شهادةٌ من الله ـ تعالى ـ على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين ؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين ؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم
١٣٩
تكذيب ما روهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ.
واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر ؛ كما يقال : الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل ؛ كما يقال :" الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله ـ تعالى ـ ".
يعني : الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله.
وإذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ﴾ : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال : منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله ـ تعالى ـ :﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾، شرح حال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجب أن يصدق في حقه أنَّه من ﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾، وهذا تنصيص من الله ـ عز وجل ـ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه :﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ [يوسف : ٢٤]، فكان هذا شهادة من الله تعالى ـ على أنَّهُ ـ عليه السلام ـ كان في ذلك الوقت من المتَّقين.
وأيضاً : قوله تعالى :﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ شهادة من الله ـ عز وجل ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المحسنين، قوله :﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف : ٢٤] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم.
فصل قال القاضي رحمه الله : قوله :﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ.
وهذا ضعيفٌ ؛ لأنا إن حلمنا لفظ " خَيْرٌ " على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٣٧
قوله :﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ الآية : ورُوِيَ أنَّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يشبعُ من طعامٍ في تلك الأيَّام ؛ فقيل له :
١٤٠


الصفحة التالية
Icon