قال شهابُ الدِّين ـ رحمه الله ـ :" الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي ".
ومنع ابن الأنباري ذلك في " إنْ " وفي " مَا " أيضاً، قال :" فيجوزُ أن تقول : خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز : خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك.
فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و " أنْ " وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ " أنْ " وما في حيزها موقعه ".
فصل قال الواحيُّ : للمفرسين في الإحاطةِ قولان : الأول : معناه الهلاكُ.
قال مجاهد : إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول : أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه.
قال الزمخشري : قال تعالى :﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف : ٤٢] أي أصالبه ما أهلكه، وقال تعالى :﴿وَظَنُّوا ااْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ [يونس : ٢٢]، وأصله ؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه ؛ فقد أحيط به، والثاني : قال قتادة : ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع.
﴿فلما ءاتوه موثقهم﴾، أي : أعطوه عهدهم.
قال يعقوب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ﴿اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ أي : شهيدٌ بمعنى شاهدٍ.
وقيل : حافظاً، أي : أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات.
قوله تعالى :﴿وَقَالَ يا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾ الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين ؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه : الأول : رُويَ عن رسول الله ﷺ أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول :" أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ، و من كُلِّ عَْينٍ لامَّةٍ ".
١٥١
ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال :" دَخَلْتُ على رسُولِ الله ﷺ في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى، فقال :" إنَّ جِبْريلَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ أتَانِي فرقَانِي، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، قال ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ ـ فأفَقْتُ ".
" وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله ﷺ وكانوا غلماناً بيضاً، فقيل : يا رسول الله " إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ، فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : نَعَم ".
" ودخل رسول الله بيت أم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ، فقال ﷺ :" ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ ".
وقال ﷺ :" العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ ".
وجاء في الأثرِ :" إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ ".
وقالت عائشة ـ رضي الله عنهما ـ :" كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ ".
والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتُؤثِّر، وتسري فيه، كما يؤثر السُّم النار، والنصوصُ النبويةُ نطقت به، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه.
وروى الزمخشري في كتاب " ربيع الأبْرارِ "، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس، والهندِ، وأطباءُ اليونانيين، ودهاةُ العرب، وأهل التجربة من نازلة الأمصار، وحذَّاق المتكلمين،
١٥٢