قوله تعالى :﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾ الآية في جواب " لمَّا " هذه ثلاثة أوجه : أظهرها : أنَّه الحملة المنفيَّةُ من قوله :﴿مَّا كَانَ يُغْنِي﴾، وفيه حجَّةٌ لمن يدَّعي كون [لمَّا] حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابها، إذْ لا يصلحُ للعمل سواه لكن ما بعد :" مَا " النَّافية لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز حين قَامَ أبُوكَ مَا قَامَ أخُوكَ، مع جوازِك لمَّا قَامَ أخُوكَ مَا قَامَ أبُوكَ.
والثاني : أنَّ جوابها محذوف، فقدَّشره أبو البقاء ـ رحمه الله ـ : امتثلوا وقضوا حاجته، وإليه نحا ابن عطيِّة أيضاً.
١٥٥
وهو تعسًّفٌ ؛ لأَنَّ في الكلام ما هو جوابٌ صريحٌ كما تقدَّم.
والثالث : أنَّ الجواب هو قوله :" آوَى " قال أبو البقاء :" وهو جواب :" لمَّا " الأولى، والثانية، كقولك : لمَّا كلَّمْتُكَ أجَبْتَنِي، وحسَّن ذلك أن دخولهم على يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تعقب دخولهم من الأبواب.
يعنى أنَّ " آوَى " جواب الأولى، والثانية، وهو واضحٌ.
فصل قال المفسرون : لمَّا قال يعقوبُ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :﴿وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [يوسف : ٦٧] صدَّق الله يعقوب فميا قاله، أي : وما كان ذلك التَّفيق يغني من الله من شيءٍ.
قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ : ذلك التَّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمراً قدره الله تعالى.
وقال الزجاجك لو قدر أن يصيبهم لأصابهم، و هم مُتفرِّقون كما يصيبهم، [وهم مجتمعون].
وقال ابنُ الأنباري : لو سبق في علم الله تعالى أنَّ العين تهلكهم عند الاجتماع ؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها : أنَّ الحذر لا يدفع القدر.
وقوله :" مِنْ شيءٍ " يحتملُ النَّصب بالمفعولية، والرفع بالفاعلية.
أمَّا الأول فهو كقولك : مَا رأيتُ من أحدٍ، والتقدير : ما رَأيتُ أحداً، كذا ههنا، وتقدير الآية : أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً.
وأما الثَّاني : فكقولك : ما جَاءَنِي من أحدٍ وتقديره : ما جَاءنِي أحدٌ، فيكون التقدير هنا : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.
قوله : إلاَّ حَاجةٌ " فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطعٌن وتقديره : ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
والثاني : أنه مفعولٌ من أجله، ولم يذكر أبو البقاءِ غيره، ويكون التقدير : ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلاَّ لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السلام، وفاعل :" يُغْنِي " ضمير التفريق المدلول عليه من الكلام المتقدِّم.
وفيما أجازه أبو البقاءِ ـ رحمه الله تعالى ـ نظر من حيث المعنى لا يخفى على مُتأمِّلهِ.
و " قَضَاهَا " صفة لـ :" حاجة ".
فصل قال بعضُ المفسرين : من تلك الحَاجةِ : خوفهُ عليهم من إصابةِ العينِ وقيل : خوفه عليهم من حسدِ أهل مصرَ، وقيل : خوفه عليهم من أن يصيبهم ملكُ مصر بسُوءٍ.
١٥٦
ثم قال :﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ قال الواحدي :" مَا " مصدريَّة، والهاء عائدةٌ إلى يعقوب ـ صلوات الله وسلام عليه ـ أي : وإنَّ يعقوب لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني : أنَّا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء.
والمراد بالعلم : الحفظُ، أي : وإنه لذو حفظ لماعلمناه.
وقيل : المراد بالعلم : العمل، أي وإنه لذَوا عمل بفوائد ما علمناه.
ثم قال :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ مثل ما علم يعقوب، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم.
وقيل : لا يعلمون أنَّ يعقوب بهذه الصِّفة.
وقال ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ : لا يعلم المشركون ما آلهم الله [أولياءه].
فالمراد بـ :" أكْثرَ النَّاسِ " المشركون.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٥٥