أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنبياء : ٩٧] و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص : ١] والمعنى : القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر : الله أحد، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً، كقوله ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ [طه : ٧٤] ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ﴾ [الحج : ٤٦].
وإذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة، ولا مبايناً لها، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار ؛ فوجب ألاَّ يحسن.
والثاني : أنَّهُ ـ تعالى ـ قال :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام، ولو قلنا : إنَّهُ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أضمر هذا الكلام لكان قوله :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ كذباً.
قال ابن الخطيب :" وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه : الأول : لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ.
وأما الثاني : فلأنا نحملُ ذلك على أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال ذلك على سبيل الخفيبة، وبهذا [التقسيم] سقط السُّؤالُ.
والوجه الثاني : وهو أنَّ الضمير في قوله :" فأسَرَّهَا " عائدٌ إلى الإجابة، كأنَّهم لما قالوا :﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة، والمعنى : أسرَّ يوسف مقالتهم، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة ؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم، يعني : أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة، و لم يبين لهم أنها كيف وقعت، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن ".
رُوِيَ عن ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ : لأجْلِش همِّه بها ؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ، وبقوله :﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ [يوسف : ٤٢] ؛ عوقب بالحبل الطَّويل، وبقولهك " إنَّكُم لسَارقُونَ " ح عوقب بقوله :﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾.
ثم قال :﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾، أي : أنتم شرٌّ منزلة عند الله، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم ؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة، والزَّمان المديد، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم ؛ فرميتموه بالسَّرقة، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾، أي : إن سرقة يوسف كانت لله رضا ؛ فلا توجب عود الذمِّ، واللَّوم إليه.
١٧٥
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٦٨
قوله تعالى :﴿ يا أيها الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً﴾ الآية.
اعلم : أنهم لمَّا قالوا :﴿إن سرق فقد سرق أخ له من قبل﴾، أحبُّوا موافقته، والعدول إلى طريق الشَّفاعة، وأنهم، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد، إلاَّ أنَّ العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزاً ؛ فقالوا :﴿ يا أيها الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً﴾، في السنِّ، ويجوز أن يكون في القدر، والدِّين ؛ لأن قولهم :" شَيْخاً " يعلم منه كبر سنه، وإنَّما ذكروا ذلك ؛ لأنَّ كونه ابناً لرجلٍ كبير القدرِ يوجب العفو [والصفح].
قوله : مَكانَهُ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّ " مَكَانهُ " : نصب [على الظرف]، والعامل فيه :" خُذْ ".
والثاني : أنه ضمَّن " خُذْ " معنى :" اجْعَلْ "، فيكونُ :" مَكَانهُ " في محلٌ المفعول الثاني.
واقل الزمخشريُّ :" فخُذْ بدله على جهةِ الاسترهانِ ؛ حتَّى نردّ الفداء إليك، أو الاستعباد ".
ثم قالوا :﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، لو فعلت ذلك.
وقيل : من المحسنين إلينا في توفية الكيل، وحسن الضِّيافة، وردِّ البضاعة.
وقيل : من المحسنين في أفعالك، وقيل : لما اشتدّ القحطُ على القوم، ولم يجدوا ما يشترون به من الطَّعام، وكانوا يبيعون أنفسهم، فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له، ثم أعتق الكُلّ قالوا :﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلى عامة النَّاس بالإعتاق، فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة.
فقال يوسف :﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ أي أعوذ بالله معاذاً ﴿أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ﴾ أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب.
قال الزجاج :" موضع " إنْ " نصب، والمعنى : أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بيغره، فلمَّا سقطت كلمة :" مَنْ " تعدَّى الفعل ".
وقوله :﴿إِنَّآ إِذاً﴾ حرف جواب وجزاء، تقدَّم الكلام [النساء : ٦٧ ـ البقرة : ١٤] على أحكامها.
والعنى : لقد تعدّيت، وظلمت، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره، فقال :
١٧٦