قال شهابُ الدِّين :" وليْسَ المعنى على الثَّاني، بل سِياقُ المعنى على عطفه على " بَأذَنَ " فإنه غيًّا الأمر بغايتين : أحداهما خاصة، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة ؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله ـ عزَّ وجلَّ ".
فصل اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه، وتناجوا فميا بينهم، قال كبيرهم :﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا ااْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً﴾ أي : عهداً ﴿مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ﴾ هذا فرَّطتم في شأن يوسف، ولم تحفظوا عهد أبيكم، ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ﴾ التي أنا بها، وهي أرض مصر، فلن أفارق أرض مصر ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى ﴾ في الانصراف إليه والخروج مهنا ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ بالخروج منها بردّ أخي إليّ، أو خروجي، وترك أخي، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي.
وقيل : أو يحكم الله لي بالسَّيفن وأقاتلهم واسترد أخي ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، والحق، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو ؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته :﴿ارْجِعُوا ااْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ﴾ بنيامين " سَرَقَ ".
قرأ العامة :" سَرَقَ " مبنيًّا للفاعل مخففاً، وابن عباس، وأبو رزين، والضحاك، والكسائي في رواية " سُرِّقَ " بضمِّ السِّين، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني : نسب إلى السَّرقة، كما يقال : خَوَّنته، أي : نسبته إلى الخِيانةِ، قال الزجاج :" سُرِّقَ " يحتمل معنيين : أحدهما : علم منه السرقة، والآخر : اتهم بالسَّرقة.
قال الجوهريُّ :" والسَّرِق والسَّرِقة ـ بكسر الراء فيهما ـ هو اسم الشيء المسروق، والمصدر : سَرَق، يَسْرِق، َرَقاً ـ بفالتح ".
وقرأ الضحاك :" سَارِق " جعله اسم فاعل.
﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه.
وقيل : معناه ﴿وَمَا شَهِدْنَآ﴾ أي : ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا، وليست هذه الشَّهادة منَّا، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم.
فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال : الذي جعل الصَّواع في رحلي، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟ فالجواب من وجوهٍ : أحدها : أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [محلٍّ] لم يدخله غيرهم،
١٨٣
فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله ؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع.
وأما قوله :" وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم " فالفرق ظاهرٌ ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأمَّا الصُّواع، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق ؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله :﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾.
وثانيها : تقدير الكلام :﴿إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ في قول الملك، وأصحابه، ومثله كثيرٌ في القرآن، قال تعالى :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان : ٤٩] أي : عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا.
وثالثها : أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ، مثله في القرآن ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠].
ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة، لا سيَّما، و قد شاهد سائرهم ذلك.
وخامسها : قراءة ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ المتقدمة " سُرِّقَ " أي : نسب إلى السَّرقة، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال ؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة، أو لم تصحّ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة.
فصل دلَّ قولهم :﴿وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ على أنَّ الشَّهادة غير العلم ؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ "...
وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله " اشْهَد " ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة.
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون بـ " الكلام " النفسي ".

فصل قال القرطبيُّ : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [وجه] حصل العلمُ بها


١٨٤


الصفحة التالية
Icon