فصل قال القرطبي :" دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [خلاف] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد :" على رسلكما، إنّما هي صفيّة بن حييّ " ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر علهيما، فقال رسول الله ﷺ :" إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال : شَيْئاً " متفرقٌ عليه.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ ؟.
فالجواب : أنَّه فعل ذلك بأمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين.
وقيل : إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٧٧
قوله :﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه، والتقدير : فرجعوا إلى إبيهم، وذكروا له ما قال كبيرهم، وفقال يعقوب : ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة، ﴿بل سولت﴾ : زيَّنَتْ ﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ أي حمل أخيكم إلى مصر، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.
وقيل :﴿سولت لكم أنفسكم﴾ أنَّه سرق، ما سرق.
﴿فصبر جميل﴾ وتقدَّم الكلام على نظيره، وقال هناك :﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ وقال ههنا ﴿عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً﴾.
١٨٧
قال بعضهم : يعنى يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر.
وإنَّما حكم بهذا الحكم ؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى.
وقيل : لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي، أو ظهرت له علامات على ذلك.
ثم قال :﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ العليم بحقائقِِ الأمْرِ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل، والإحسان.
وقيل : العليم بحزني، ووجدي على فقدهم، الحكيم في تدبير خلقه.
قوله تعالى :﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ الآية.
لما سعم يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم :﴿وقال يا أسفى على يوسف﴾ يا حزنا على يوسف.
والأسفُ : أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه : الأول : أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة :[الطويل] ٣١٣٣ـ فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ
لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ١٨٧
فقُلْتُ لَهُ : إنَّ الأسَى يَبْعَيُ الأسَى
فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ ؛ فأجاب : إنَّ الأسى يبعث الأسى.
الثاني : أنَّ ينيامين، ويسوف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم.
الثالث : أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ.
الرابع : أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث
١٨٨