الْيَوْمَ} [يوسف : ٩٢] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم ؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة.
وقال الواحديُّ :" النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا ـ وإن كان في محل العفو ـ في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه ؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين ".
فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ ؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله ـ تعالى ـ فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر.
ثم قال :﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ﴾ أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها.
احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه ـ تعالى، أخبر عن يوسف ت عليه الصلاة والسلام ـ أنه أضاف الإحسان إلى الله ـ تعالى ـ وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.
الجواب : أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز ؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال :﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم : ٢٢] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك، وأيضاً : فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر ؛ لزم التسلسل وهو محالٌ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر، فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر، والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله ـ تعالى ـ ويؤيد ذلك قوله :﴿أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ﴾ وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله ـ تعالى ـ.
٢١٧
ثم قال :﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ﴾ " لطيف " أصله أن يتعدَّى بالباء، وإنَّما يتعدى بللاَّم لتضمنه معنى مدبر، أي : أنت بلطفك لما تشاءُ.
والمعنى : أنه ذو لطف لما يشاء، وقيل : بمن يشاء، وحقيقته أللُّطفِ : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق.
والمعنى : أن اجتماع يوسف، وإخوته مع الأُلْفِ، والمحبَّة، وطيب العيشِ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول، إلا أنه ـ تعالى ـ لطيفٌ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه، فحصل، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ.
﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب.

فصل اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم.


فقيل : ثمانون سنة، وقيل : سبعون، وقال الأكثرون : أربعون، ولذلك يقولون : إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة.
وقيل : ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية، والملك، والسجن ثمانين سنة، ثمَّ وصل إليه أقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة.
وقال : أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام، ثم رجع إلى مصر.
قال سعيد بن جبيرٍ : نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو، فدفنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة، وقيل : ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة، وفي التوراة مائة وعشرين، وولد له إفرائيم، وميشا وولد لإفرائيم نو، ولاوي، ويوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ـ ورحمة امرأة أيوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه تمنى الموت.
وقيل : ما تمنَّاه نبيُّ قبله، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر، ويجعلوه فيه، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه، ويصل إلى مصر، وبقي هناك إلى أن بعث موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فأخرج عظمه من مصر، ودفنه عند أبيه.
قوله تعالى :﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ الآية قرأ عبد الله :(آتيتن وعملتن) بغير
٢١٨


الصفحة التالية
Icon