قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ علا عليه :﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ.
قال ابن عبَّاسٍ : للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى :﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
وتحقيقه : أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك ؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك.
وقيل : المراد بقوله :﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف ـ تعالى ـ في قوله :﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير : ١] ﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق : ١] و ﴿إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار : ١] ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [القيامة : ٩] كقوله تعالى :﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ [الأنعام : ٢].
قوله :﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله ـ تعالى ـ وفيهما وجهان : أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.
والثاني : أنَّ الاولى حالٌ من فاعل " سخَّر "، والثاني حالٌ من فاعل :" يُدبِّرُ ".
وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب :(ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما، والحسن والأعمش :" نُفَصِّلُ " بالنون " يُدبِّرُ " بالياء.
قال المهدويُّ : لم يختلف في :" يُدبِّرُ " يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب.
فصل قوله :﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِدتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة ؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله ـ تعالى ـ.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ
٢٣٩
من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ ـ تعالى ـ يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه ـ في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات.
قوله ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته، وعلمه، وحكمه.
واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان : أحدهما : الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره.
والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ.
فقوله :﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل.
ثم قال :﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا.
واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر ؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى.
وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ ـ كرَّم الله وجهه ـ : كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة ؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
واعلم أنَّهُ ـ تعالى ـ كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ.
واعلم أنَّ لفظ " اللِّقاءِ " يدل على رؤية اللهِ ـ تعال ـ وقد تقدَّم تقريره.
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ﴾ [الآية : ٣] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال :﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ﴾ بسطها، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله :﴿مَدَّ الأَرْضَ﴾ ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت
٣٤٠