فالجواب : أنَّ " مِنْ " الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.
قوله :" يَحْفَظُونهُ " يجوز أن يكون صفة لـ " مُعقِّباتٌ "، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبراً]، و " مِنْ أمْرِ اللهِ " متعلق به، و " مِنْ " إمَّا للسَّببِ أي : بسبب أمر الله.
ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة ـ رضي الله عنهم ـ : بأمر الله.
وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف.
قال ابن الأنباري : كلمة " مِنْ " معناها الباء، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه ؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، ممَّا قضاه الله عليه ؛ وإمَّا أن تكون على بابها.
قال أبُو البقاء :" مِنْ أمْرِ اللهِ " من الجنِّ، والإنس، فتكون " مِنْ " على بابها.
" يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية ".
ويجوز أن تكون بمعنى " عَنْ "، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة لـ :" مُعقِّباتٍ " أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها ﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ وبكونها " يَحفظه "، وبكونها " مِنْ أمْرِ اللهِ " ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين : الأول : أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.
قال شهاب الدِّين ـ رحمه الله ـ :" والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه ".
والثاني : أن فيه إضماراً، أي : ذلك الحفظ من أمر الله، أي : ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس : ألفان، والمراد الذي فيه ألفان.

فصل ذكر المفسرون : أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار ؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل


٢٦٨
جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل.
لما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله ﷺ : قال " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم ؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي ؟ فَيقُولُون : تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون ".
وقوله :﴿مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقيل : يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهدٌ : ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام.
وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات " يحفظونه " أي يحفظون عليه، " من أمر الله " يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى :﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق.
١٨].
وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال :" أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله ﷺ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه ؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، مفأقبل حتى قام عليه، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؛ فقال ﷺ : لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال : تجعلي لي الأمر بن بعدك ؛ قال : ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله ـ عز وجل ـ يجعله حيث يشاءُ، فقال : تجعلني على الوبر والمدرِ، قال : لا، قال : فما تجعلي لي ؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال : أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله ﷺ وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله ﷺ ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمذَ حبسه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عنده، فلم يقدر على سلّه،
٢٦٩


الصفحة التالية
Icon