فإن عجز الجماد، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات، والأرض معلوم " ؟ ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [قاله له] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء، وهي جمادات، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً، ولا ضرًّا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها، ودفع المضرة عن نفسها، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة] لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث، والسَّفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها.
فقال :﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ قرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم :" يَسْتَوِي " بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث، فيجوز في فعله التذكير، والتأنيث، كنظائر له مرت.
وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار ؟ قوله :" أمْ هَلْ " هذه أم المنقطعة، فتقدر بـ " بل "، والهمزة عند الجمهور، وبـ " بل " وحدها عند بعضهم، وقد تقدَّم تحريره، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها بـ " بَلْ " فقط بوقوع :" هَلْ " بعدها، فلو قدَّرناها بـ " بَلْ " والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى ؛ فتقدرها بـ " بل " وحدها، " ولا " تقويةٌ له، فإن الهمزة قد جامعت :" هَلْ : في اللفظ، كقوله الشاعر :[البسيط] ٣١٧٤ـ....................
أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٨٢
فأولى أن يجامعها تقديراً.
ولقائل أن يقول : لا نسلم إنَّ :" هَلْ " هذه استفهاميَّة، بل بمعنى :" قَدْ "، وإليه ذبله جماعةٌ، وإن لم تجامعها همزة، كقوله تعالى :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان : ١] أي : قد أتى، فههنا أولى، والسماع قد ورد بوقوع :" هَلْ " بعد :" أم " وبعدمه.
فمن الاول هذه الآية، ومن الثاني : ما بعدها من قوله :" أمْ جَعلُوا ".
وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله :[البسيط]
٢٨٣
٣١٧٥ـ هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ
أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ
إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ
فصل قوله :﴿هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ كذلك لايستوي المؤمن، والكافر :﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ اي كما لا تستوي الظلمات والنور، لايستوي الكفر، والإيمان.
قوله :﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ الجملة من قوله :" خَلقُوا " صفة لـ :" شُرَكاءَ "، ﴿فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾، أي : اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فلا يدرون ما خلق الله، وما خلق آلهتهمخ.
والمعنى : أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا : إنها تشارك الله في الخالقيَّة ؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ، ولا خلق، ولا أثر ألبتة، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه، و الجهل.
فصل قال ابن الخطيب :" زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات، وسكنات مثل الحركات، والسكنات التي يخلقها الله، وعلى هذا التقدير : فقد ﴿جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ والله ـ تعالى ـ إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم، والإنكارِ ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه ".
قال القاضي :" نحن وإن قلنا :" إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله ؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة، ودفع مضرة، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك ؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله، وأيضاً : فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً ؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله ـ تعالى ـ فهو كسبٌ للعبد، وفعلٌ له، وهذا عين الشرك ؛ لأنَّ الإله، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ، وهو أنه، تعالى ـ إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا : إنَّ الله ـ تعالى ـ خلق هذا الكفر فينا ؛ فلم يذمنا، ولم
٢٨٤


الصفحة التالية
Icon