قوله تعالى :﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ الآية قد تقدَّم تقرير القولين في " أفَلمْ " وهو نظيرُ " أفَمَنْ "، ومذهب الزمخشريِّ فه بعد هنا.
والمعنى : أنَّ العالم بالشَّيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا مشى من غير قائدٍ، فرُبَّما وقع في المهالك، أو أفسد ما كان في طريقهن من الأمتعة النافعة، وأمَّا البصير، فإنه يكون آمناً [الهلاك]، والإهلاك.
قيل : نزلت في حمزة، وأبي جهلٍ، وقيل : في أبي عمَّار، وأبي جهلٍ، فالأوَّل حمزة، أو عمَّار، والثاني : أبو جهل، وهو الأعمى، أي : لا يستوي من من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصره، ولا يتبعه.
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ يتعظ ﴿أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذوو العقول.
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ بما أمرهم به، وفرضه عليهم، ولا يخالفونه.
ويجوز أن يكون قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ﴾ صفة لـ " أولي الألباب "، ويجوز أن يكون صفة لقوله ـ عز وجل ـ :﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ﴾.
وقيل :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ مبتدأ : و ﴿أُوْلَـائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ خبره لقوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ [الرعد : ٢٥] أولئك لهم اللعنة.
وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ.
القيد الأول قوله :﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنه ـ : يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ [الأعراف : ٣٢] وقيل : المراد بـ " عَهْدِ اللهِ " كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته.
والقيد الثاني : قوله سبحانه :﴿وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد ؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق ؛ فهما متلازمان.
وقيل : الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء.
وقيل : الوفاءُ بالعهدِ : عهد الربوبيَّة، والعبودية، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد ﷺ عند ظهوره.
٢٩٢
وقيل : المراد من الوفاء بالعهد : أن لا يغدر فيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام :" مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ ".
القيد الثالث : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾.
قيل : أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، و :﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة : ٢٨٥].
وقال الأكثرون : المراد صلة الرَّحم.
فِإن قيل : الوفاء بالعهد، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات، والاحتراز عن كل المنهيات.
فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما ؟ فالجواب من وجهين :[الأول] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ طانٌّ أنَّ ذلك، فيمابينهن، وبين ربه، فلا جرم أفرد ما بينه، وبين العباد، بالذكر.
والثاني : أنه تأكيدٌ، وفي [تفسير] هذه الصِّلة وجوه : أحدهما : صلة الرَّحم، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حاكياً عن ربِّه ـ عز وجل ـ أنا الرَّحمنُ، وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [قَطَعْتُهُ] قال تعالى :﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا ااْ أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد : ٢٢].
وقال ﷺ :" ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق : تأتي الرَّحِمُ تقول : أيْ ربِّ قُطِعْتُ، والأمَانَةُ تقول : أي ربِّ تُركت، والنِّعمة تقول : أي ربِّ كُفِرْتُ ".
وثانيها : المراد صلة محمدٍ ﷺ ومؤازرته ونصرته في الجهادِ.
وثالثاً : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرَّحم، وأخوة الإيمان قال تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات : ١٠] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات، ودفع الآفات بقدر الإمكان، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة، والدجاجة.
القيد الرابع : قوله :" وَخْشَوْنَ ربَّهُمْ " معناه : أنَّ العبد، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه
٢٩٣