فصل اعلم أن قوله ﴿يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ﴾ أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه : يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله ـ تعالى ـ لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون : بل كفروا بالله إما جحداً له، وإما لإثباتهم الشركاء معه.
قال القاضي : وهذا القول أليق بالظاهر ؛ لأن قوله تعالى ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ﴾ يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى.
قوله :﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ [الرعد : ٣١] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم : أبو جهل بن هشام وعبدالله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله ﷺ وعرض عليهم الإسلام، فقال عبدالله بن أمية المخزومي : إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو [سخر لنا الريح، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا ؛ فقد] سخر ا لريح لسليمان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان، أو أحْي لنا جدك قصي، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله ـ عز وجل ـ ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ﴾ [الرعد : ٣١] أي : شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ [الرعد : ٣١].
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٠٣
قوله :﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ جوابها محذوف، أي : لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده ؛ كقوله الشاعر :[الطويل] ٣١٨٠ـ فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ
سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا
أراد : لرددناهن، وهذا معنى قول قتادة : قالوا : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
٣٠٥
وقيل : تقديره لما آمنوا.
ونقل عن الفراء : جواب " لو " هي الجملة من قوله ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ﴾ [الرعد : ٣٠] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام : وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل : لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم، كقوله :﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلا اائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا ااْ﴾ [الأنعام : ١١١] وهذا في الحقيقة دال على الجواب.
وإنما حذفت التاء شفي قوله ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ﴾ وثبتت في الفعلين قبله ؛ لأنه من باب التغليب، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث.
قوله ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ااْ﴾ أصل اليأتس : قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه، واختلف الناس فه ههنا، فقال بعضهم هو هنا على بابه، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار، أي : ييأس من إيمانهم قال الكسائي.
وقال الفراء :" أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال : أفلم ييأسوا علماً " يقول : يؤيسهم العلم، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام :" يئست منك إن لا تفلح " كأنه قال : علمه علماً، قال : فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل ".
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله ـ عز وجل ـ ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ﴾ على [التأويلين] في المحذوف المقدر، قال في هذه الآية " أفلمْ يَيْأسٍ " المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً﴾.
وقال الزمخشري :" ويجوز أن يتعلق ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ﴾ بـ " آمَنَوا " على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم ".
وهذا قد سبقه إليه أبو العباس ـ رضي الله عنه ـ.
وقال أبو حيان : ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه، وهو : أن الكلام تام
٣٠٦
عند قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا ااْ﴾ إذ هو تقرير، أي : قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين، و ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ﴾ جواب قسم محذوف، أي : وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على هذا القسم [وجود] " أنْ " مع " لَوْ " في قول الشاعر :[الوافر] ٣١٨١ـ أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا
وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ