الكفرة قهراً وجبراً، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله ـ تبارك وتعالى ـ ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى :﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الأنبياء : ٤٤] وقوله تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت : ٥٣].
وقال قوم : هو خراب الأرض، أي : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك ؟ وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أيضاً : ننقصها من أطرافها، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء.
قال الواحدي :" وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول، ويمكن أن يقال : هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع ؛ لأن قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم، فناسب هذا الكلام ماقبله ".
قوله : نَنْقُصهَا " حال إما من فاعل " نَأتِي " أو من مفعوله.
وقرأ الضحاك " نُنَقِّصها " بالتضعيف، عداه بالتضعيف.
قوله :" لا مُعَقِّبَ " جملة حالية، وهي لازمة.
والمعقب : هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله، قال لبيد :[الكامل] ٣١٨٨ـ.................
طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٢٢
والمعنى : والله يحكم لا رادَّ لحكمه.
والمعقب : هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب ؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ قال بان عباس رضي الله عنه : الانتقام.
٣٢٣
قوله :﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني من قبل مشركي مكمة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر ﴿فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً﴾ أي : عند الله جزاء مكرهم.
قال الواحدي ـ رحمه الله ـ : يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ـ تعالى ـ هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي ﷺ وأمانٌ لهن من مكرهم، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله ـ تعالى ـ وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.
ثم قال ـ جل ذكره ـ ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله ـ تعالى ـ وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله ـ تعالى ـ.
قالت المعتزلة : الآية الأولى إن دلت على قلوكم، فقوله ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل [بخلق] الله ـ تعالى ـ لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.
والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.
ثم إنه ـ تعالى ـ أكد ذلك التهديد فقال ـ جل ذكره ـ ﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ﴾ قرأ ابن عامر والكوفيون " الكُفَّار " جمع تكسير والباقون :" الكَافِرُ " بالإفراد ذهاباً إلى الجنس.
وقرأ عبدالله " الكَافِرُونَ " جمع سلامة.
قال الزمخشري :" قرىء : الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ ".
قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس، كقوله تعالى :﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر : ٢].
وقال عطاء رحمه الله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون " وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد أبا جهل، والأول هو الصواب.
قوله :﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين :
٣٢٤


الصفحة التالية
Icon