العرب خاصة، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه ؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته.
الثاني : قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب.
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله.
قوله :" فَيُضِلُّ " استنئاق إخبار، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله ؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال].
قال الزجاج :" لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز ".
قوله :﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية، والضلال من الله ـ سبحانه وتعالى جل ذكره ـ.
قالوا : وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ، وعمر ـ رضوان الله عنهما ـ وعن الصَّحابة أجمعين ـ أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال النبي ﷺ ما هذا ؟ فقال بعضهم يا رسول الله : يقول أبو بكرٍ : الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر : كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وتبع بعضهم عمر، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وأعرض عنه حتى عرف في وجهه، ثم أقبل على عمر ـ رضي الله عنه ـ فتعرف ما قاله، وعرف السرور في وجهه، فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :" أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل ـ صلوات الله وسلامه عليه عليهما ـ فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ، فقضاء إسرافيل ـ صلوات الله عليه ـ أن القدر كله خيره وشره من الله ـ تعالى ـ وهذا قضائي بينكما ؟.
قالت المعتزلة : لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه : الأول : أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ أي : ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله ـ تعالى ـ من إرسال الرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حصول الإيمان للمكلفين، فلو كان مقصوده الإضلال، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود.
والثاني : أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قال لهم : إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم، فهلم أن يقولوا : فما لنبوتك فائدة، وما المقصود من إرسالك ؟ وهل يمكننا أن
٣٣٧
نزيل كفراً خلقه الله فينا ؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة، وتفسد بعثة الرسل.
الثالث : إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله ـ تعالى ـ وميشئته، فيجب أن يكون الرضا به واجباً ؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
الرابع : أنَّ مقدمة الآية، وهي قوله ـ جل ذكره ـ ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم : ١] يدلُّ على العدل، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله ـ جلَّ ذكره ـ ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله :﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ دليل على خلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه : الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال : فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي : يحكمُ بكونه كافر ضالاً.
والثاني : أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار.
والثالث : أنَّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه.
قال الزمخشري :" والمراد بالإضلال التخلية، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف، والتَّوفيق ".
قال ابن الخطيب ـ رحمه الله ـ :" والجواب قوله ـ عزَّ وجلَّ ـ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ لا يليق به أن يضلهم.
قلنا قال الفراء : إذا ذكر فعل، وبعده آخر، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه، وإن لم يكن مشاكله، استأنفه ورفعه، نظيره :﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ [التوبة : ٣٢] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.
ونظيره أيضاً قوله :﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ﴾ [الحج : ٥] ومن ذلك قولهم :" أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ " بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه ؛ ومثله قول الشاعر :[الرجز]
٣١٩٢ـ يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ
٣٣٨