قال الزمخشريُّ :" أدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة، وشهادته عليه ".
قوله :﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ﴾ اللام متعلقة بالدُّعاءِ، أي : لأجل غفران ذنوبكم ؛ كقوله :[المتقارب] ٣١٩٩ـ دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً
فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٤
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك :" دعوتك لزيد "، وقوله :" إذا تدعون إلى الإيمان "، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم.
لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال :" فاطر السموات والأرض " : أي خالق السماوات والأرض " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " أي : ذنوبكم و " من " صلة، وقيل :" من " تبعيضية، وقيل : بمعنى البدل، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى :﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ [التوبة : ٣٨] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه.
﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى حين استيفاء أجلكم، ولا يعالجكم بالعذاب، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل، وذلك من وجوه : الأول : قال بعضش العقلاء : إن من لطم وجه سبي لطمة، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى وجود التكليف، وعلى وجود دار الجزاء، وعلى وجود النبي صلى الله عليه وسلم.
أما دلالتهم على وجود الصانع ؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني ؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى.
وأما دلالتها على وجود التكليف ؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي، ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى.
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل، فبأن تشهد على وجوب ا لجزاء على جميع العباد والأعمال أولى.
٣٤٨
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ ﷺ فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية، كم هي ؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام ؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.
الوجه الثاني : في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي : وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم، وبانٍ حكيمٍ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش، والبناء إلى البَاني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.
الوجه الثالث : أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة، فإنه بأصل فطرته، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر.
الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار.
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً.
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار.
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار [بوجود] المعاد أحوط ؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد ؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية، وهني منقضية فانينة، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم.
٣٤٩


الصفحة التالية
Icon