أعظم الموجبات لعذابهم، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال :﴿هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾.
قوله :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ﴾ الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله ـ تعالى ـ لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب ؟ قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قرأ أبو عبدالرحمن رحمه الله تعالى : بسكون الراء، وفيه وجهان : أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا :" ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان " فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره " لَمْ أبَلْ " فإن أصله : أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية فـ " أنَّ " في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقرأ الأخوان هنا :" (خالق السماوات والأرض) " خَالِقُ " اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو " الأرض "، وفي " النور " :" خالقُ كُلِّ دابّةٍ " [أية : ٤٥] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون :" خَلَقَ " فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا :" الأرْضَ " و ﴿كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ [النور : ٤٥] وكسر " السَّمواتِ " في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب " الأرْضَ " على أحد وجهين، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون " السَّموات " منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.
و " بِالحقِّ " متعلق به " خَلَقَ " على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي : محقَّا، أو من المفعول، أي : متلبسة بالحق.
قوله " بالحَقِّ " تقدم نظيره في يونس ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [يونس : ٥] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
قم قال ـ عزَّ وجلَّ ـ ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ والمعنى : من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [إفناء] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين
٣٦٥
أولى ؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم ؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
﴿وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٦١
قوله :﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً﴾ الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم، وكيفية افتضحاهم عندهم.
و " بَرَزَ " معناه في اللغة : ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره.
وقيل : في قوله تعالى :﴿وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً﴾ [الكهف : ٤٧] أي : ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ : إذا كانت تعظهر للنَّاس، ويقال : فلانٌ برز على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل : بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها.
وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال ؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق، فصار كأنه قد حصل، ودخل في الوجود، كقوله تعالى :﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف : ٥٠].
فصل البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ، فلا بد من التأويل، وهو من وجوه : الأول : أ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله ـ تعالى ـ فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله ـ تعالى ـ وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية.
والثاني : أنَّهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله ـ تعالى ـ قالت الحكماءُ :
٣٦٦


الصفحة التالية
Icon