وأحوال الأشقياء، وكانتع العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله ـ تعالى ـ بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله ـ تعالى ـ هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل : أولها : خلق السَّموات.
وثانيها : خلق الأرض.
وثالثها : قوله :﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾.
" مِنَ السَّماءِ : يجوز أني تعلق بـ " أنْزلَ "، و " من " لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من " مَاءٍ " ؛ لأ، ه صفته في الأصل، وكذلك " مِنَ الثَّمراتِ " في الوجهين.
وجوَّز الزمخشري وابن عطية : أن تكون :" مِنْ " لبيان الجنس، أي : ورزقاً هو الثمرات.
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما ؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة ٢٣، ٢٥].
ورابعها : قوله تعالى :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ يجوز أن يتعلق " بأمْرهِ " بـ " تَجْرِي " أي : بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي : ملتبسة به.
وخامسها : قوله ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ﴾.
وسادسها، وسابعها :﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ﴾ دائبين حال من " الشمسِ والقَمرِ "، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ.
وثامنها وتاسعها :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾.
وعاشرها : قوله تعالى :﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ العكامة على أضافة :" كُلِّ " إلى ما.
وفي " مِنْ " قولان : أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ.
والثاني : أن تكون تبعيضية، أي : آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و " مَا " يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي : مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في :" سَألتُموهُ " عائد على الله ـ تعالى ـ وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما
٣٨٩
أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، و كلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع ـ رضشي الله عنهم ـ في رواية :" مِنْ كُلِّ " منونة، وفي " مَا " على هذه القراءة وجهان : أحدهما : أنَّها نافية، وبيه بدأ الزمخشري، فقال : و " مَا سَألتْمُوهُ " نفي ومحله النَّصب على الحال، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.
قال شهاب الدين : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله :" مِنْ كُلِّ " كقوله تعالى ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل : ١٦].
والثاني : أنها موصولة يمعنى الذي، وهي المفعول الثاني لـ " آتَاكُمْ :.
وهذا التخريج الثاني أولى ؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة.
قال أبو حيَّان : ِ " ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون :" مَا " موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول :" مَا سَألتْمُوهُ " بمعنى ما احتجتم إليه ".
فصل اعلم أنَّه ـ تعالى ـ بدأ بذكر خلق السموات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.
ثمَّ قال :﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾ فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو ؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى :﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾.
قال أبو مسلم ـ رحمه الله ـ : لفظ " الثَّمراتِ " يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى :﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام : ١٤١].
٣٩٠


الصفحة التالية
Icon