ومنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه، فبين ـ تعالى ـ أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد، و أنهم يرفعون رءوسهم.
والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ، وهو مؤنَّثٌ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس، وفي الكثرة على " رُءُوس " والأرَاسُ : العظيم الرأس، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها.
قوله :﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في :" مُقْنِعِي " ويجوزو أن يكون بدلاً من :" مُقْنِعِي "، كذا قاله أبو البقاء، يعني أنه يحل محله، ويجوز أن يكون استئنافاً، والطرف في الأصل مصدر، وأطلق على الفاعل، كقولهم :" مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف "، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر :[الكامل] ٣٢٤١ـ وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي
حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٤٠٥
والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً، يقال : ما طبق طرفهُ، أي : حفنهُ على الآخر، الطَّرفُ أيضاً : تحركُ الجِفْنِ.
ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ.
قوله :﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ " يجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعامل فيه إمَّا " يَرتَدُّ " وإمَّا ما قبله من العوامل، وأفرد :" هَواءٌ "، وإن كان خبراً عن جمع ؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه ".
والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ، يقال : جوفهُ هواء، أي : فارغ ؛ قال زهيرٌ :[الوافر]
٤٠٨
٣٢٤٢ـ كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل
مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ
وقال حسَّان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ :[الوافر] ٣٢٤٣ـ........................
فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ
النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه.
والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ.
قوله :﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ قال أبو البقاء :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ﴾ معفول ثان لـ :" أنْذر "، أي : خوفهم عذاب يوم، وكذا قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب، ولا حاجة إلى ذلك، ولا جائز أن يكون ظرفاً ؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة، أو يوم هلاكهم، أو يوم تلقاهم الملائكةُ.
والألف واللام في :" العَذابُ " للمعهود السَّابق، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره، وهو شخوصُ الأبصار، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم.
فصل حمل أبو مسلم قوله :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ على أنه حال المعاينة، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا اا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون : ١٠]، وظاهر الآية يشهد بخلافه ؛ لأنه ـ تعالى ـ وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه، وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم :﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا ااْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم :﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ااْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه.
٤٠٩


الصفحة التالية
Icon