و " يَأكلُوا " مجزومٌ على جواب الأمر، وقد تقدم [البقرة : ١٧، ٢٧٨] أنَّ " تَرَكَ " و " وَذرَ " يكونان بمعنى " صيَّر "، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي : ذرهُم مهملين.
قوله تعالى :﴿وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ﴾، يقال : لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا ؛ جاء في الحديث : أنَّ ابن الزبير ـ رضي الله عنه ـ كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث ".
قال الكسائيُّ، والأصمعيُّ : كلُّ شيءٍ تركتهُ، فقد لهيتهُ ؛ وأنشد :[الكامل]
٣٢٦٢ب ـ صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ
أي : اتركها، وأعرض عنها.
فصل في سبب شقاء العبد قال القرطبي : أربعةٌ من الشقاءِ ؛ جمودُ العين، وقساوة القلبِ، وطُولُ الأملِ، والحرصُ على الدُّنيا.
فطُول الأملِ : داء عضالٌ، ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داءٌ، ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطبَّاء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء.
وحقيقة الأمل : الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحبُّ لها، والإعراض عن الآخرة، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :" نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ ".
وقال الحسن : ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل.
قوله :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾، أي : من أهل قرية، ﴿إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ﴾ فيه أوجه : أظهرها : أنها واو الحال، ثم لك اعتباران : أحدهما : أن تجعل الحال وحدها الجارَّ، ويرتفع " كِتَابٌ " به فاعلاً.
٤٢٧
والثاني : أن تجعل الجارَّ مقدماً، و " كِتَابٌ " مبتدأ، والجملة حالٌ، وهذه الحال لازمةٌ.
الوجه الثاني : أنَّ الواو مزيدة، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة :" إلاَّ لَهَا " بإسقاطها، والزيادة ليست بالسهلةِ.
الثالث : أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة ؛ تأكيداً، قال الزمخشريُّ : والجملة واقعة صفة لـ " قَرْيَةٍ "، والقياس : ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما ؛ كما قوله تعالى :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء : ٢٠٨] وإنما توسَّطت، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف ؛ كما تقول :" جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ ".
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء، وقد سبق له ذلك ـ أيضاً ـ في البقرة عند قوله :﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة : ٢١٦].
قال أبو حيَّان ـ رحمه الله ـ :" ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين ".
قال شهاب الدين : وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك ".
ثم قال أبو حيان :" وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد " إلاَّ " يكون صفة ؛ وقد منعوا ذلك ".
قال الأخفش : لا يفصل بين الصفة والموصوف بـ " إلا "، ثم قال : وأما نحو :" مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلاَّ راكِبٌ " على تقدير : إلاَّ رجلٌ راكبٌ، ففيه قُبح ؛ لجعلك الصفة كالاسم.
وقال أبو علي : تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً، وقائماً حالٌ، ولا تقول : إلاَّ قائمٌ ؛ لأنَّ " إلاَّ " لا تعترض بين الصِّفة والموصوف.
قال ابن مالكٍ : ـ وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله " مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ " : إنَّ الجملة بعد " إلاَّ " صفة لـ " أحَدٍ " ـ : إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه، وأبطل قوله :" إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف ".
قال شهابُ الدين ـ رحمه الله ـ : قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس ؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه.
فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً ؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة، ويقويه ـ أيضاً ـ [نصره] به من الآية الأخرى في قوله :﴿مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ﴾ [الشعراء : ٢٠٨].
ويقويه ـ أيضاً ـ : قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة، وقال منذرُ بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ، هي في الزمن قبل الحالة التي
٤٢٨


الصفحة التالية
Icon