وهذا النَّظم حسنٌ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة، وفي النظم وجه آخر : وهو أنه ـ تعالى ـ إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه ﷺ و أن يصبره على سفاهة قومه، فإنه إذا سمع [أنَّ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات ؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد ـ ﷺ ـ ثم : إنَّه ـ تعالى ـ لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة، قال لمحمد ﷺ :" إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ "، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك، ويجازيهم، وإيَّاك، فإنه ما خلق السماوات، والأرض، وما بينهما إلا بالحق، والعدل والإنصاف، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ؟.
ثم إنَّه ـ تعالى ـ لما صبَّره على أذى قومه، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم، فقال :﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾.
قوله :: إلاَّ بالحقِّ " نعت لمصدر محذوف، أي : ملتسبة بالحقِّ.
قال المفسِّرون : هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهو بعيد ؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن، والعفوا، والصفح، فكيف يصير منسوخاً ؟.
ثم قال :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ﴾، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم، وتفاوت أحوالهم، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت، ومع العلم بذلك التَّفاوت، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته، وإرادته، وعلى قول المعتزلة : لأجل المصلحة، والحكمة.
وقرأ زيد بن علي، والجحدري :" إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ "، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٤٨٣
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي﴾ يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات، وأن يكون سبعاً من السُّورِ، وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين.
٤٨٥
والثاني : صيغة جمع، واحدة مثناةُ، والمثناةُ : كل شيءٍ يُثَنَّى، وأي : يجعل اثنين من قولك : ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً، أي : عَطفْتهُ، أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي ؛ لأنها تثنى بالفخذ، والعضد ؛ ومثاني الوادي معاطفه.
وإذا عرف هذا، فقوله :﴿سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي﴾ مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، وهذا القدر مجملٌ، ولا سبيل إلى تعيينه، إلا بدليلٍ منفصلٍ، وللنَّاس فيه أقوال : أحدها : قال عمرُ، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، وأبو هريرة، والحسن، وأبو العالية، ومجاهدٌ والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ : إنه فاتحة الكتاب.
روى أبو هريرة ـ رضي الله عنهم ـ " أن النبي ﷺ قرأ فاتحة الكتاب، وقال :" هِيَ السَّبْعُ المَثانِي ".
وإنَّما سمِّيت بالسَّبع ؛ لأنها سبعُ آياتٍ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه : أولها : قال ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن، وقتادة لا، ها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ.
ثانيها : قال الزجاج : لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها.
وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناءُ، ونصفها دعاءٌ، كما ورد في الحديث المشهور.
ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنَّها نزلت مرَّتين، مرة بمكَّة، ومرة بالمدينة.
وخامسها : لأنَّ كلماتها مثناة، مثل :﴿الرَّحْمـانِ الرَّحِيمِ مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ﴾ [الفاتحة : ٣ـ٧].
وفي قراءة عمر :(غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال : كان ابن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب ؛ رأى أنَّها ليست من القرآن.
قال ابن الخطيب :" لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم "، ويشكل هذا بقوله :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب : ٧]، وكذلك قوله تعالى :﴿وَمَلا اائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة : ٩٨].
٤٨٦