ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً ".
وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي ﷺ :" ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ " أي لم يستغن.
وقال ابن [عبَّاسٍ] ـ رضي الله عنهما ـ :" لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ "، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا.
وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال :" إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا ".
وروي أنه ﷺ " نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا ؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ ؛ وقَرأ هذِه الآية ".
قوله :" عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا " هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع ؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون.
قوله :﴿أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾.
قال ابن قتيبة : أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة : الصِّنف ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عز وجل ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
الخفض : معناه في اللغة : نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة ﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾ [الواقعة : ٣]، أي : أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان : يدهُ.
قال الليثُ ـ رضي الله عنه ـ يد الإنسان : جناحه، قال تعالى :﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ [القصص : ٣٢]، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود : أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة : ٥٤]، وقوله :﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح : ٢٩].
قوله :﴿وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾ لما أمر رسوله ﷺ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم :﴿أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار،
٤٨٩
ومعنى " المَبِين " الآتي بجميع البيِّنات الوافية.
قوله :﴿الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ فيه أقوال : أحدها : أنََّ الكاف [تتعلق] بـ " آتَيْنَاكَ "، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال :" أنزلنا عليك "، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون :﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾.
الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب بـ " آتَيْنَاكَ " تقديره : آتيناك إتياناً كما أنزلنا.
الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف، ولكنَّه ملاق لـ " آتيْنَاكَ " ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا ؛ لأنَّ " آتَيْنَاكَ " بمعنى أنزلنا إليك.
الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والعامل فيه مقدَّر أيضاً، وتقديره : ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم.
الخامس : أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير، والتقدير : أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا، أي : مثل ما أنزلنا.
السادس : أنه نعتٌ لمفعول محذوف، النَّاصب له :" النَّذيرُ "، تقديره : النَّذيرُ عذاباً ﴿كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ وهم قوم صالح ؛ لأنهم قالوا :" لنُبَيتنَّه " وأقسموا على ذلك، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ، وشعرٍ، وافتراءٍ.
وقد ردَّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي.
السابع : أنَّه مفعول به ناصبه :" النَّذيرُ " أيضاً.
قال الزمخشريُّ :" والثاني : أن يتعلق بقوله :﴿وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾، أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهود، وما جرى على بني قريظة، و النضيرِ ".
وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً.
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين : إمَّا التزامُ إضمارٍ، ِأو التزام حذفٍ.
أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [المبين] عذاباً، كما أنزلنا على المقتسمين، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف، وهو المشبه، ودلَّ عليه المشبه به، كما
٤٩٠