والأصل : بالخَيْرِ.
وقال الزمخشريُّ :" ويجوز أن تكون " مَا " مصدرية، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول " انتهى.
وهو كلامٌ صحيحٌ، والمعنى : فاصدع بأمرك، وشأنك.
قالوا : وما زال النبي ﷺ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.
ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به " أنْ "، والفعل المبني للمفعول.
ثم قال أبو حيان :" والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز ".
قال شهابُ الدين : الخلاف إنَّما هو في المصدر، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز.
خلاف المشهور، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز ؟ فليس محل النِّزاع.
٤٩٥
ثم قال تعالى :﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾، أي لا تبال عنهم، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة.
قال بعضهم : هذا منسوخٌ بآية القتال، وهو ضعيف ؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة، فلا يكون منسوخاً.
قوله :﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ يقول الله لنبيه محمد ﷺ ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾، ولا تخف أحداً غير الله، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزوميُّ، وكان رأسهم، والعاص بن وائلٍ [السهمي]، والأسود بن عبدالمطلب بن الحارث بن أسد بن عبدالعزى أبو زمعة، وكان رسول الله ﷺ قد دعا عليه، فقال :" اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ، وأثْكلهُ بِولَدهِ "، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة، والحررث بن قيس بن الطلالة ؛ فأتى جبريل محمداً ﷺ والمستهزءون يطوفون بالبيت، فقام جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه، فمرّ به الوليد بن المغعيرة، فقال جبريل ـ عليه السلام ـ : يا محمد : كيف تجدُ هذا ؟ قال :" بئس عبدالله " قال : قد كَفَيْتُكَه، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً، وعليه برد يمان، وهو يهز إزاره، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره، فمنعه الكبرُ أن يتطامن، فينزعها، وجعلت تضربُ ساقه ؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات.
ومرَّ به العاس بن وائلٍ، فقال جبريلُ : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بِئْسَ عبد الله، فأشار جبريل ـ عليه السلام ـ إلى أخْمَصِ رجليه، وقال : قد كفيتكه، فخرج على راحلته، ومعه ابنان له يتنزَّه ؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب، فوطىء على شبرقة، فدخلت شوكة في أخمص رجله، فقال : لُدِغْتُ لُدِغْتُ ؛ فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.
ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب، فقال جبريل : كيف تجدُ هذا يا محمَّد ؟ قال :" عَبْدُ سوءٍ "، فأشار بيده إلى عينيه، وقال : قد كَفَيْتُكَهُ، فعمي.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : رماه جبريل بورقةٍ خضراء ؛ فذهب بصره، ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل ـ عليه السلام ـ : كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبدالله على أنه [ابن] خالي، فقال جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ، فقال جبريل ـ عليه السلام ـ كيف تجد هذا يا محمَّد ؟ صلوات الله وسلامه عليك ـ، قال : عَبدُ سُوءٍ فأومأ، فامتخط قيحاً ؛ فمات.
قيل : استهزاؤهم، وا ااقتسامهم أنَّ الله ـ تعالى ـ لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ،
٤٩٦
وسورة النحل، وسورة العنكبوت، كانوا يجتمعون، ويقولون استهزاء، يقول هذا إلى سورة البقرة، ويقول هذا إلى سورة النحل، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى :﴿نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : فصلّ بأمر ربك :" وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ " المصلين [المتواضعين].
قال بان العربي " ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ـ ظهره الله تعالى ـ يسجدُ في هذا الموضع، وسجدت معه فيها، ولم يره [جماهير] العلماء ".
قال [القرطبي]، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة ـ رضي الله عنه ـ ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة، قال العلماء : إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [الطاعات] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم " كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ ".
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ قال ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ : يريد الموت ؛ لأنه أمر متيقن.
فإن قيل : فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟.
فالجواب : المراد :" واعبد ربَّك " في جميع زمان حياتك، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة.
روى أبيُّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ " صلى الله عليه وسلّم وشرَّف، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم.
٤٩٧
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٤٨٥


الصفحة التالية
Icon