والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل :﴿مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس : ٧٨] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة.
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي ﷺ : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ ؟.
والصحيح أنَّ الآية عامة ؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران.
قوله تعالى :﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ الآية هذه الدلالة الثالثة ؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب.
قوله :﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ العامة على النصب، وفيه وجهان : أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة.
والثاني : أنه نصب على عطفه على " الإنْسانَ "، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكن " خَلقَهَا " على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً.
وقرئ شاذًّا " والأنْعَامُ " رفعاً وهي مرجوحةٌ.
قوله :﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ يجوز أن يتعلق " لكم " بـ " خلقها "، أي : لأجلكم ولمنافعكم، ويكون " فيها " خبراً مقدماً، و " دفء " مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون " لَكُمْ " هو الخبر، أو يكون حالاً من " دفء " قاله أبو البقاء.
وردَّه أبو حيَّان : بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز " قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ " فإن تأخَّرت نحو " زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً " جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.
ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.
وقال أبو البقاء أيضاً :" ويجوز أن يرتفع " دِفْءٌ " بـ " لَكُمْ " أو بـ " فِيهَا " والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب ".
قال أبو حيان " ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير : خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ ".
١١
قال شهابُ الدِّين :" قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا ".
والدِّفءُ : اسم لما يدفأ به، أي : يسخنُ.
قال الأصمعيُّ : ويكون الدفءُ السخونة، يقال : اقعد في دفء هذا الائط، أي : في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى.
والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها.
وقرأ زيد بن علي :" دِفٌ " بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ : كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم : هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً.
وقال صاحب اللَّوامحِ :" ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً ".
قال شهابُ الدِّين : والتشديد وقفاً : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.
قوله " ومَنافِعُ " أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة ؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل.
فصل الحيوانات قسمان : منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [أفضل] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال :﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل.
قال الواحديُّ : تمَّ الكلام عند قوله :﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ ثم ابتدأ وقال :﴿لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾.
قال صاحبُ النَّظم : أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله :" خَلَقَهَا " ؛ لأنه عطف عليه ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾ والتقدير : لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ.
١٢


الصفحة التالية
Icon