فأوقع " مَنْ " على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء.
الثاني : المشاكلة بينه وبين " مَنْ يَخْلقُ ".
[الثالث : تخصيصه بمن يعلم، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق] وبين " مَنْ لا يخلقُ " من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم ؛ كقوله تعالى :﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ [الأعراف : ١٩٥] إلى آخره ؛ وأمَّا من يجيز إيقاع " مَنْ " على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل.
قال الزمخشري - رحمه الله - : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها ؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق.
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله :﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾.
فصل في الاحتجاج بالآية احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه ؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى :﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية، والمعبوديَّة ؛ لكونه خالقاً، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق، والإيجاد.
أجاب المعتزلة من وجوه : الأول : المراد من قوله تعالى ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ ما تقدم ذكره من السماوات والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، والبحار، والنجوم، والجبال، كمن لا يقدر على خلق
٣٦
شيءٍ أصلاً، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ ؛ فإنه يكون إلهاً، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً.
الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة، والمعبوديَّة، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً ؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً ؛ لقوله :﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ﴾ [الأعراف : ١٩٥].
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ.
فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً.
الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد.
قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى ؛ كقوله تعالى :﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [المائدة : ١١٠] ؛ وفي قوله عز وجل :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون : ١٤] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة ؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد، وعلى الله مجاز ؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير، وذلك عبارة عن الظنِّ، والحسبان، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ، وفي حق الله تعالى محالٌ.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٢٠
قوله تعالى :﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ﴾ لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ، والكمال، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ، والعبادات، وبالغ في شُكْرِ نعم الله ؛ فإنه يكون مقصِّراً ؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل، فإنَّ من لا يكون متصوراً، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد ؛ لأنَّ نعم الله كثيرة، وأقسامها عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها، ومجملها.
ثم قال - جلَّ ذكره - :﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، " لَغَفُورٌ " لتقصيركم في شكر نعمه،
٣٧